وقوله - تعالى - بعد ذلك : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } تعليل لما قبله . أى : أنا لا أدرى متى يكون عذابكم - أيها الكافرون - لأن مرد علم ذلك إلى الله - تعالى - الذى هو عليم بكل شئ من الظواهر والبواطن ، والذى اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه ، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه .
ثم يؤمر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يتجرد وينفض يديه من أمر الغيب أيضا :
( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ) . .
إن الدعوة ليست من أمره ، وليس له فيها شيء ، إلا أن يبلغها قياما بالتكليف ، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان - الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي . وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر الله ، وليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا . فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له الله أمدا ممتدا . سواء عذاب الدنيا أو عذاب الأخرة . فكله غيب في علم الله ؛ وليس للنبي من أمره شيء ، ولا حتى علم موعده متى يكون ! والله - سبحانه - هو المختص بالغيب دون العالمين :
( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) . .
ويقف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] متجردا من كل صفة إلا صفة العبودية . فهو عبد الله . وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته . . ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش . والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يؤمر أن يبلغ فيبلغ : ( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) . .
وقوله : عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ يعني بعالم الغيب : عالم ما غاب عن أبصار خلقه ، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا ، فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يظهره على ما شاء من ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه ، وما يحكم الله ، فإنه لا يعلم ذلك غيره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عالِم الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يصطفيهم ، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يظهره من الغيب على ما شاء إذا ارتضاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَدا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ قال : ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن ، قال : وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة .
وقوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا يقول : فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرسا وحفظة يحفظونه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه ، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن طلحة ، يعني ابن مصرف ، عن إبراهيم ، في قوله : مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من الجن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدا قال : الملائكة .
و { عالم } يحتمل أن يكون بدلاً من { ربي } [ الجن : 20 ] ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مضمر على القطع ، وقرأ السدي : «عالم الغيب » على الفعل الماضي ونصب الباء{[11383]} ، وقرأ الحسن : «فلا يَظهَر » بفتح الياء والهاء «أحدٌ » بالرفع .
وجملة { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً } في موضع العلة لجملة { إن أدري أقريب ما توعدون } الآية .
و { عالم الغيب } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله { ربي } . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفاً اتُّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في « المفتاح » .
و { الغيب } : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس .
وإضافة صفة { عالم } إلى { الغيب } تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراداً فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته ، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن . ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها ، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإِحاطة علم الله بجميع ذلك .
وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر ، أي هو عالم الغيب لا أنا .
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة { فلا يُظْهر على غيبه أحداً } ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه .
ومعنى { لا يظهر على غيبه أحداً } : لا يُطلع ولا ينبىء به ، وهو أقوى من يطلع لأن { يظهر } جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى : يطلع ، عدي بحرف { على } .
ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم ، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم .
وحرف { على } مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى { وأظهره الله عليه } [ التحريم : 3 ] فهو استعلاء مجازي .
واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إِخبار بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس .