{ إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } والحميم . هو الماء الذى بلغ الغاية فى الحرارة . والغساق : هو ما يسيل من جلودهم من القيح والدماء والصديد . يقا : غسق الجرح - كضرب وسمع - غسقانا ، إذا سالت منه مياه صفراء . أى : أن هؤلاء الطغاة لا يذوقون فى جهنم شيئا نم الهواء البارد ، ولا من الشراب النافع ، لكنهم يذوقون فيها الماء الذى بلغ النهاية فى الحرارة والصديد الذى يسيل من جروحهم وجلودهم .
فالاستثناء فى قوله { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } ، استثناء منقطع ، لأن الحميم ليس من جنس البرد فى شئ ، وكذلك الغساق ليس من جنس الشراب فى شئ .
وقوله : إلاّ حَمِيما وغَسّاقا يقول تعالى ذكره : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلاّ حميما قد أغلي حتى انتهى حرّه ، فهو كالمُهْل يَشْوِي الوجوه ، ولا برد إلاّ غَسّاقا .
واختلف أهل التأويل في معنى الغَسّاق ، فقال بعضهم : هو ما سال من صديد أهل جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية بن سعد ، في قوله : حَمِيما وَغَسّاقا قال : هو الذي يَسيل من جلودهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : زعم عكرِمة أنه حدثهم في قوله : وَغَسّاقا قال : ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور عن إبراهيم وأبي رَزِين إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قالا : غُسالة أهل النار لفظ ابن بشار وأما ابن المثنى فقال في حديثه : ما يسيل من صديدهم .
وحدثنا ابن بشار مرّة أخرى عن عبد الرحمن ، فقال كما قال ابن المثنى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رَزين وَغَسّاقا قال : ما يَسِيل من صديدهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور وأبي رَزِين ، عن إبراهيم مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : غَسّاقا كنا نحدّث أن الغَسّاق : ما يسيل من بين جلده ولحمه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، أنه قال : بلغني أنه ما يسيل من دموعهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم وَغَسّاقا قال : ما يسيل من صديدهم من البرد ، قال سفيان وقال غيره : الدموع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إلاّ حَمِيما وغَسّاقا قال : الحميم : دموع أعينهم في النار ، يجتمع في خنادق النار فيُسْقَونه ، والغساق : الصديد الذي يخرج من جلودهم ، مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال : الغساق : ما يقطر من جلودهم ، وما يسيل من نتنهم .
وقال آخرون : الغساق : الزمهرير . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا يقول : الزمهرير .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن المثنى ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، في قوله : إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال : الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده .
قال : ثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال : الذي لا يستطيعونه من برده .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : الغساق : الذي لا يستطاع من برده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع قال : الغساق : الزمهرير .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : الغساق : الزمهرير .
وقال آخرون : هو المُنْتِن ، وهو بالطّخارية . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن صالح بن حيان ، عن عبد الله بن بُرَيدة ، قال : الغساق : بالطّخارية : هو المنتن .
والغساق عندي : هو الفعال ، من قولهم : غَسَقت عين فلان : إذا سالت دموعها ، وغَسَق الجرح : إذا سال صديده ، ومنه قول الله : وَمِنْ شَرّ غاسِقٍ إذَا وَقَبَ يعني بالغاسق : الليل إذا لَبِس الأشياء وغطاها وإنما أريد بذلك هجومه على الأشياء ، هجوم السيل السائل فإذا كان الغسّاق هو ما وصفت من الشيء السائل ، فالواجب أن يقال : الذي وعد الله هؤلاء القوم ، وأخبر أنهم يذوقونه في الاَخرة من الشراب ، هو السائل من الزمهرير في جهنم ، الجامع مع شدّة برده النتن ، كما :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : حدثنا رشدين بن سعد ، قال : حدثنا عمرو بن الحرث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «لَوْ أن دَلْوا مِنْ غَسّاقٍ يُهْرَاقُ إلى الدّنْيا ، لأَنْتَنَ أهْلَ الدّنْيا » .
حُدثت عن محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي قبيل ، عن أبي مالك ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : «أتدرون أيّ شيء الغسّاق ؟ قالوا : الله أعلم ، قال : «هو القيح الغليظ ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب ، لأنتن أهل المشرق ، ولو تهراق بالمشرق ، لأنتن أهل المغرب » .
فإن قال قائل : فإنك قد قلت : إن الغَسّاق : هو الزمهرير ، والزمهرير : هو غاية البرد ، فكيف يكون الزمهرير سائلاً ؟ قيل : إن البرد الذي لا يُستطاع ولا يُطاق ، يكون في صفة السائل من أجساد القوم من القيح والصديد .
ثم قال تعالى : { ولا شراباً إلا حميماً } فالاستثناء متصل و «الحميم » : الحار الذائب وأكثر استعماله في الماء السخن والعرق ومنه الحمام ، وقال ابن زيد : «الحميم » : دموع أعينهم ، وقال النقاش : ويقال «الحميم » الصفر{[11585]} المذاب المتناهي الحر ، واختلف الناس في «الغساق » ، فقال قتادة والنخعي وجماعة : هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه ، يقال : غسق الجرح : إذا سال منه قيح ودم ، وغسقت العين : إذا دمعت وإذا خرج قذاها ، وقال ابن عباس ومجاهد : «الغساق » : مشروب لهم مفرط الزمهرير ، كأنه في الطرف الثاني من الحميم يشوي الوجوه ببرده ، وقال عبد الله بن بريدة : «الغساق » : المنتن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم{[11586]} وجماعة من الجمهور : «غسَاقاً » ، بتخفيف السين وهو اسم على ما قدمناه ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتبة وقتادة وابن وثاب : «غسّاقاً » مشددة السين وهي صفة أقيمت مقام الموصوف ، كأنه قال ومشروب غساق أي سائل من أبدانهم .
واستثناء { حميماً وغساقاً } من { برداً } أو { شراباً } على طريقة اللف والنشر المرتب ، وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحرّ ، ولأن الغساق ليس من جنس الشراب ، إذ ليس المُهل من جنس الشراب .
والمعنى : يذوقون الحميم إذ يُراق على أجسادهم ، والغَساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم .