{ فَإلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } على شيء من ذلكم { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [ من عند الله ]{[427]} لقيام الدليل والمقتضي ، وانتفاء المعارض .
{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : واعلموا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي : هو وحده المستحق للألوهية والعبادة ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لألوهيته ، مستسلمون لعبوديته ، وفي هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله أن يصده اعتراض المعترضين ، ولا قدح القادحين .
خصوصا إذا كان القدح لا مستند له ، ولا يقدح فيما دعا إليه ، وأنه لا يضيق صدره ، بل يطمئن بذلك ، ماضيا على أمره ، مقبلا على شأنه ، وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها . بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض ، على جميع المسائل والمطالب . وفيها أن هذا القرآن ، معجز بنفسه ، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله ، ولا بعشر سور من مثله ، بل ولا بسورة من مثله ، لأن الأعداء البلغاء الفصحاء ، تحداهم الله بذلك ، فلم يعارضوه ، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك .
وفيها : أن مما يطلب فيه العلم ، ولا يكفي غلبة الظن ، علم القرآن ، وعلم التوحيد ، لقوله تعالى : { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
وقوله - سبحانه - { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } إرشاد لهؤلاء المشركين إلى طريق الحق والسعادة لو كانوا يعقلون ، إذ الخطاب موجه إليهم لعلهم يثوبون إلى الرشد .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الذين تحديتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن ، وأبحث لهم أن يستعينوا فى ذلك بمن شاءوا من البشر ، قل لهم : فإن لم يستجب لدعوتكم من استعنتم بهم فى الإِتيان بعشر سور من مثل القرآن .
. وهم لن يستجيبوا لكم قطعا - { فاعلموا } أيها الناس أن هذا القرآن { أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } وحده ، وبقدرته وحدها . ولا يقدر على إنزاله بتلك الصورة أحد سواه .
واعلموا - أيضا - أنه { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } - سبحانه - فهو الإِله الحق ، الذى تعنوا له الوجوه ، وتخضع له القلوب ، وتتجه إليه النفوس بالعبادة والطاعة .
{ فَهَلْ أَنتُمْ } أيها المشركون بعد كل تلك الأدلة الواضحة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن هذا القرآن من عنده { مُّسْلِمُونَ } أى : داخلون فى الإِسلام ، متبعون لما جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والمراد بالعلم فى قوله { فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ . . . } : الاعتقاد الجازم البالغ نهاية اليقين ، أى فأيقنوا أن هذا القرآن ما أنزل إلا ملابس لعلم الله - تعالى - المحيط بكل شئ .
والفاء فى قوله { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } للتفريع ، والاستفهام هنا المقصود به الحض على الفعل وعدم تأخيره .
أى : فهل أنتم بعد كل هذه الأدلة على صدق ما جاءكم به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تشكون فى أن الإِسلام هو الدين الحق ؟ إن الشك فى ذلك لا يكون من عاقل ، فبادروا إلى الدخول فى الإِسلام إن كنتم من ذوى العقول التى تعقل ما يقال لها .
ويرى بعض العلماء أن الخطاب فى هذه الآية موجه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، أو إليه وحده - صلى الله عليه وسلم - وعلى سبيل التعظيم وعليه يكون المعنى :
" فإن لم يستجب لكم - أيها المؤمنون - هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، بعد أن ثبت عجزهم عن الإِتيان بما تحديثموهم به { فاعلموا } أى فازدادوا علما ويقينا وثباتا ، بأن هذا القرآن " إنما أنزل بعلم الله " الذى لا يعزب عنه شئ ، وازدادوا علما بأنه لا إله إلا هو - سبحانه - مستحق للعبادة والطاعة ، فهل أنتم بعد كل ذلك { مُّسْلِمُونَ } أى ثابتون على الإِسلام ، وملتزمون بكل أوامره ونواهيه .
ومع أننا نرى أن القولين صحيحان من حيث المعنى ، إلا أننا نفضل الرأى الأول القائل بأن الخطاب للمشركين ، لأن سياق الآيات السابقة فى شأنهم فلان يكون الخطاب لهم هنا أولى .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِلّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : فإن لم يستجب لكم من تدعون من دون الله إلى أن يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات ، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك ، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أُنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه ، وأن محمدا لم يفتره ، ولا يقدر أن يفتريه ، وأن لا إلهَ إلاّ هُوَ يقول : وأيقنوا أيضا أن لا معبود يستحقّ الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر ، فاخلعوا الأنداد والاَلهة وأفردوا له العبادة .
وقد قيل : إن قوله : فإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ خطاب من الله لنبيه ، كأنه قال : فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار يا محمد ، فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم الله . وذلك تأويل بعيد من المفهوم .
وقوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ يقول : فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة ، ومخلصون له العبادة بعد ثبوت الحجة عليكم ؟ وكان مجاهد يقول : عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأنْ لا إلَهَ إلاّ هُوَ فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقيل : فإنْ لَمْ يَسْتَجُيبُوا لَكُمْ والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحد ، وذلك قوله : قُلْ فَأْتُوا ولم يقل : فإن لم يستجيبوا لك على نحو ما قد بيّنا قبل في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم ، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع إذا كان خطابه خطاب الأتباع وجنده ، وأحيانا مخرج خطاب الواحد إذا كان في نفسه واحدا .
تفريع على { وادْعوا من استطعتم } [ هود : 13 ] أي فإن لم يستجب لكم مَن تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلاّ حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعاً في يأس الدّاعين من الإتيان بعشر سور .
والاستجابة : الإجابة ، والسين والتاء فيه للتأكيد . وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه ، وهي مجاز مرسل لأنّ المعاونة تنشأ عن النّداء إلى الإعانة غالباً فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسمّيت استجابة .
والعلم : الاعتقاد اليقين ، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلاّ بعلم الله ، أي ملابساً لعلم الله . أي لأثر العلم ، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه . وقد أفادت ( أنما ) الحصر ، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله . و { أن لا إله إلاّ هو } عطف على { أنّما أنزل } لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم . ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم .
والفاء في { فهل أنتم مسلمون } للتفريع على { فاعلموا } . والاستفهام مستعمل في الحثّ على الفعل وعدم تأخيره كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] أي عن شرب الخمر وفعل الميسر . والمعنى : فهل تسلمون بعد تحققكم أنّ هذا القرآن من عند الله .
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته . ولم يقل فهل تسلمون لأنّ حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدلّ عليه الجملة الاسمية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: فإن لم يستجب لكم من تدعون من دون الله إلى أن يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أُنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه، وأن محمدا لم يفتره، ولا يقدر أن يفتريه، "وأن لا إلهَ إلاّ هُوَ "يقول: وأيقنوا أيضا أن لا معبود يستحقّ الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد والآلهة وأفردوا له العبادة...
وقوله: "فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ" يقول: فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة، ومخلصون له العبادة بعد ثبوت الحجة عليكم؟...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأَن لَّا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} لفظُه استفهامٌ ومعناه أمرٌ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ".. والاستجابةُ في الآية طلبُ الإجابةِ بالقصْد إلى فِعلها، يقال: استجابَ وأجابَ بمعنىً واحدٍ. والفرقُ بين الإجابةِ والطاعةِ أن الطاعة: موافَقةٌ للإرادة الجاذبةِ إلى الفعل برَغبةٍ أو رَهْبةٍ.
والإجابةُ: موافَقةُ الداعي إلى الفعل من أجل أنه دعا به...
وقوله "أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ "يَحتمل أمرين:
أحدهما -بعِلم الله أنه حَقٌّ مِن عنده أي عَالِمٌ به.
والآخَرُ- بعِلم اللهِ بمواقع تأليفِه في عُلُوِّ طبقتِه...
وقوله "فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" معناه هل أنتم بعد قيام الحُجّةِ عليكم بما ذَكرْناه من كلام الله وأنه أَنزله على نبيِّه تصديقاً له فيما أدّاه إليكم عن الله مسلِمون له موقِنون به؟ لأن كلَّ مَن سَلَّمَ له الأمرَ فقد استسلَم له...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أي: أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه. {و} اعلموا عند ذلك {و أَن لاَّ إله إِلاَّ} الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم.
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد... ومعنى {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} فهل أنتم مخلصون؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان أدنى درجات الافتراء إتيان الإنسان بكلام غيره من غير علمه، وكان عجزهم عن المعارضة دليلاً قاطعاً على أنهم لم يصلوا إلى شيء من كلامه تعالى بغير علمه ولا وجدوا مكافئاً له يأتيهم بمثله ثبت قطعاً أن هذا القرآن غير مفترى، فقال تعالى مخاطباً للجميع بخلاف ما في القصص إشارة إلى وضوح الأمر لا سيما في الافتراء عند كل أحد وأن المشركين قد وصلوا من ذل التبكيت بالتحدي مرة بعد مرة وزورهم لأنفسهم في ذلك المضمار كرة في أثر كرة إلى حد من العجز لا يقدرون معه على النطق في ذلك ببنت شفة} فإن لم يستجيبوا لكم {أي يطلبوا إجابتكم ويوجدوها {فاعلموا} أيها الناس كافة {أنما أنزل} أي ما وقع إنزال هذا القرآن خاصة إلا ملتبساً {بعلم الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بمقتضى أن محمداً واحد منهم تمنع العادة أن يعثر دون جميع أهل الأرض على ما لم يأذن فيه ربه من كلامه فضلاً عن أن يكون مخترعاً له، ويجوز أن يكون ضمير {يستجيبوا} ل "من "في {من استطعتم} و {لكم} للمشركين، وكذا في قوله: فاعلموا و {أنتم} {وأن} أي واعلموا أن {لا إله إلا هو} فإنه لو كان معه إله آخر لكافأه في الإتيان بمثل كلامه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم.
ولما كان هذا دليلاً قطعياً على ثبوت القرآن، سبب عنه قوله مرغباً مرهباً: {فهل أنتم مسلمون} أي منقادون أتم انقياد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا} في هذا الخطاب وجهان صحيحان: أحدهما: أنه تتمة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدى به المشركين فهو يقول لهم: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة لسور القرآن، من آلهتكم الذي تدعون وتعبدون، وهواجسكم الذين يلقنونكم العشر كما تزعمون، وقرنائكم من فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ومن علماء أهل الكتاب العارفين بأخبار الأنبياء، لعجز الجميع عن ذلك.
{فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} أي فاعلموا أنما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى علم الله ملابسا له مبينا لما أراد أن يبلغه لعباده من دينه على ألسنة رسله، لا يعلم محمد ولا غيره ممن تدعون زورا أنهم أعانوه عليه، لأنه في جملته من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله تعالى به، كما قال: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف:7] وكما تراه في آخر قصة نوح من هذه السورة [الآية: 49] ومثلها في آخر سورة يوسف [102] ومثلهما في سورة القصص [44-46] وقال في آية أخرى بعد ذلك {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة ويشهدون وكفى بالله شهيدا} [النساء: 166] وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] الخ وما فيها من العلم الكسبي لم يكسب منه محمد صلى الله عليه وسلم شيئا.
الاستجابة للداعي إلى الشيء كإجابته إليه، وعدم الاستجابة لهم داحضة لدعواهم مثبتة لكون هذه العلوم التي فيه من علم الله لا من علم البشر، وهو صريح في أن المراد إنما هو التحدي في هذه السور من العلم لأنه هو الذي دحض دعواهم أن محمدا افتراها "وأنما "المفتوحة الهمزة تدل على الحصر كالمكسورة على التحقيق.
{وأن لا إله إلا هو} أي واعلموا أنه لا إله يعبد بالحق إلا هو، لأن من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز كل من عداه عن مثل ما يقدر هو عليه، كما ظهر بهذا التحدي عجزكم وعجز آلهتكم وغيرهم عن الإتيان بعشر سور مثل سور كتابه بالتفصيل وعن سورة واحدة بالإجمال.
{فهل أنتم مسلمون} أي فهل أنتم بعد قيام هذه الحجة عليكم داخلون في الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بعقائده وحقيقة أخباره ووعده ووعيده، مذعنون لأحكامه؟ أي لم يبق لكم محيص من الإسلام والانقياد، وقد دحضت شبهتكم، وانقطعت معاذيركم، إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، فهذا الاستفهام يتضمن طلب الإسلام والإذعان بأبلغ عبارة فهو كقوله بعد وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس من عمل الشيطان لا يريد إلا إيقاع الشقاق والبغضاء بين الناس في الخمر والميسر وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة وبعد هذا كله قال: {فهل أنتم منتهون} أي عنهما بعد علمكم بهذا الرجس والمخازي التي فيهما أم لا؟ وأي إنسان يملك مسكة من عقل وشرف لا يقول عند نزول هذه الآية في سورة هود: أسلمنا أسلمنا، كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [رضي الله عنه] عند نزول تلك الآية: انتهينا انتهينا؟
الوجه الثاني في الآية: إن الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع الضمير في "لكم" للتعظيم بناء على أنه غير خاص بضمير المتكلم، أو له ولمن معه من المؤمنين إذ كانوا كلهم دعاة إلى الإسلام معه صلى الله عليه وسلم وقيل إنه لهم وحدهم، وهذا مروي عن مجاهد. والمعنى فإن لم يجبكم هؤلاء المشركون إلى ما تحديتموهم به من الإتيان بعشر سور مثله ولو مفتريات لا يتقيدون بكون أخبارها حقا كأخبار القرآن – وما هم بمستجيبين لكم لعجزهم وعجز من عسى أن يدعوهم لمظاهرتهم عليه- فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله، وازدادوا به إيمانا ويقينا بهذه الحجة، وأنه لا إله إلا هو ولا يستحق العبادة سواه، فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإخلاص فيه؟ أي اثبتوا عليه، والوجه الأول أظهر وأقوى وعليه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري وأشار إلى ضعف الثاني، ولكن رجحه كثيرون، والحق أنه صحيح ولكنه خلاف الظاهر المتبادر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين. خصوصا إذا كان القدح لا مستند له، ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك، ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه، وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها. بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض، على جميع المسائل والمطالب...
وفيها: أن مما يطلب فيه العلم، ولا يكفي غلبة الظن، علم القرآن، وعلم التوحيد، لقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستجابة: الإجابة، والسين والتاء فيه للتأكيد. وهي مستعملة ٌفي المعاوَنة والمظاهَرة على الأمر المستعان فيه، وهي مجازٌ مرسَلٌ لأنّ المعاونة تنشأ عن النّداء إلى الإعانة غالباً فإذا انتُدب المستعانُ به إلى الإعانة أجاب النداءَ بحضوره فسُمّيت استجابةً...
والعلم: الاعتقاد اليقين، أي فأيقِنوا أن القرآن ما أُنزل إلاّ بعِلم الله...
. أي لأثر العِلم، وهو جعْله بهذا النَّظْم للبشر لأن ذلك الجعلَ أثرٌ لقدرة الله الجاريةِ على وَفْقِ عِلمِه. وقد أفادت (أنما) الحصر، أي حَصْرَ أحوالِ القرآنِ في حالة إنزاله من عند الله...
والفاء في {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} للتفريع على {فَاعْلَمُوا}. والاستفهام مستعمَلٌ في الحَثِّ على الفعل وعدمِ تأخيرِه... وجِيء بالجملة الاسمية الدالّةِ على دوام الفعل وثباتِه. ولم يَقل فهل تُسْلِمون لأنّ حالة عدم الاستجابة تُكْسِبُ اليقينَ بصحة الإسلام فتقتضي تمكُّنَه من النفوس وذلك التمكُّنُ تَدلّ عليه الجملةُ الاسميّةُ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... إِنّ الآيات المذكورة توكّد إِعجاز القرآن مرّة أُخرى وتقول: ليس هذا
كلاماً عادياً يترشح من الفكر البشري، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم الله اللامحدود وقدرته الواسعة، وعلى هذا فإِنّه يتحدّى جميع البشر أن يواجهوه بمثله ـ مع ملاحظة أنّ المخالفين من معاصري النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعدهم إلى يومنا هذا عجزوا عن ذلك، وفضلوا مواجهة الكثير من المشاكل على معارضة القرآن، وهكذا يتّضح أن مثل هذا العمل لم يكن من صنع البشر ولا يكون، فهل المعجزة شيء غير هذا؟!
هذا نداء القرآن ما زال في أسماعنا، وهذه المعجزة الخالدة تدعو العالمين إليها وتتحدى جميع المحافل البشرية، لا من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات وجاذبيتها ووضوح المفاهيم فحسب. بل من حيث المحتوى والعلوم التي فيه والتي لم تكن موجودة في ذلك الزمان، والقوانين التي تتكفل بسعادة البشرية ونجاتها، والبيان الخالي من التناقض، والقصص التاريخية الخالية من الخرافات، وأمثالها.