ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه البشارة العظيمة للمؤمنين فقال : { ياأيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فادخلي فِي عِبَادِي . وادخلي جَنَّتِي } .
والنفس المطمئنة : هى النفس الآمنة من الخوف أو الحزن فى يوم القيامة . بسبب إيمانها الصادق ، وعملها الصالح ، والكلام على إرادة القول . أى : يقول الله - تعالى - على لسان ملائكته ، إكراما للمؤمنين ، عند وفاتهم ، أو عند تمام حسابهم : يأيتها النفس الآمنة المطمئنة ، الناعمة بروح اليقين ، الواثقة بفضل الله - تعالى - ورحمته .
وقوله : يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئنّةُ ارْجِعي إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملائكة لأوليائه يوم القيامة : يا أيتها النفس المطمئنة ، يعني بالمطمئنة : التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد أهل الإيمان به ، في الدنيا من الكرامة في الاَخرة ، فصدّقت بذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس يا أيّتُها النْفْسُ المُطْمَئِنّةُ يقول : المصدّقة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ، في قوله يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : المطمئنة إلى ما قال الله ، والمصدّقة بما قال .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : المصدّقة الموقِنة بأن الله ربها ، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : النفس التي أيقنت أن الله ربها ، وضربت جأشا لأمره وطاعته .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : أيقنت بأن الله ربّها ، وضربت لأمره جأشا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أن الله ربها ، وضربت لأمره جأشا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّة قال : أيقنت بأن الله ربها ، وضربت لأمره جأشا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : المُطْمَئِنّةُ قال : المُخبِتة والمطمئنة إلى الله .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : التي قد أيقنت بأن الله ربها ، وضربت لأمره جأشا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : المخبِتة .
حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : التي أيقنت بلقاء الله ، وضربت له جأشا .
وذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : «يا أيّتُها النّفْسُ الاَمِنَةُ » . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، عن هارون القاري ، قال : ثني هلال ، عن أبي شيخ الهنائي في قراءة أُبيّ : «يا أيّتُها النّفْسُ الاَمِنَةُ المُطْمِئَنّةُ » وقال الكلبي : إن الاَمنة في هذا الموضع ، يعني به المؤمنة .
وقيل : إن ذلك قول الملك للعبد عند خروج نفسه مبشره برضا ربه عنه ، وإعداده ما أعدْ له من الكرامة عنده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : قُرئت : يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ ارْجِعي إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : إن هذا لحسن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما إنّ المَلَكَ سَيَقُولُهَا لك عِنْدَ المَوْتِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ارْجِعي إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً قال : هذا عند الموت فادْخُلِي فِي عِبادِي قال هذا يوم القيامة .
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أُسامة بن زيد ، عن أبيه ، في قوله : يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ قال : بُشّرت بالجنة عند الموت ، ويوم الجمع ، وعند البعث .
ولما فرغ ذكر هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال : { يا أيتها النفس المطمئنة } الآية ، و { المطمئنة } معناه : الموقنة غاية اليقين ، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] ، فهي درجة زائدة على الإيمان ، وهي أن لا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله ، واختلف الناس في هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره : هو عند خروج نفس المؤمن من جسده في الدنيا ، وروي أن أبا بكر الصديق سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له :
( إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر عند موتك ){[11819]} .
لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإِنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتَّبعوا هديه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك مما يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر .
واتصالُ هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد . وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة . فيجوز أن يُقَال يومَ الجزاء فهو مقول قولٍ محذوف هو جواب ( إذا ) { إذا دكت الأرض } [ الفجر : 21 ] الآية وما بينهما مستطرد واعتراض .