مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ} (27)

قوله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة }

اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا ، وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته ، فقال : { يا أيتها النفس } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : تقدير هذا الكلام . يقول الله للمؤمن : { يا أيتها النفس } فإما أن يكلمه إكراما له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك ، وقال القفال : هذا وإن كان أمرا في الظاهر لكنه خبر في المعنى ، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله ، وقال الله لها : { فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } قال : ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم ، كقولهم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت .

المسألة الثانية : الاطمئنان هو الاستقرار والثبات ، وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه ( أحدها ) : أن تكون متيقنة بالحق ، فلا يخالجها شك ، وهو المراد من قوله : { ولكن ليطمئن قلبي } ( وثانيها ) : النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ، وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله : { ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة } وتحصل عند البعث ، وعند دخول الجنة لا محالة ( وثالثها ) : وهو تأويل مطابق للحقائق العقلية ، فنقول : القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله ، أما القرآن فقوله : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وأما البرهان فمن وجهين ( الأول ) : أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات ، فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكنا لذاته طلب العقل له سببا آخر ، فلم يقف العقل عنده ، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه ، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات . ومنتهى الضرورات ، فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ، ولم ينتقل عنه إلى غيره ، فإذا كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده ، وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود ، وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه ، فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود ( الثاني ) : أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بإمداد الله ، وغير المتناهي لا يصير مجبورا بالمتناهي ، فلابد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له ، حتى يحصل الاستقرار ، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن ، وليست نفسه نفسا مطمئنة ، أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة ، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله ، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله : { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملا في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد .

المسألة الثالثة : اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال : { ونفس وما سواها } وقال : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } وقال : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء ، فقال : { إن النفس لأمارة بالسوء } وتارة بكونها لوامة ، فقال : { بالنفس اللوامة } وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية . واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك : ( أنا ) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت ، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين ( الأول ) : أن المشار إليه بقولك : ( أنا ) قد يكون معلوما حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة ، والمعلوم غير ما هو غير معلوم ( والثاني ) : أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك : ( أنا ) غير متبدل ، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، والمتبدل غير ما هو غير متبدل ، فإذا ليست النفس عبارة عن هذه البنية ، وتقول : قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله : ( أنا ) حال ما أكون غافلا عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق . والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات ، وقال آخرون : بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية ، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حيا وإن فارقته صار البدن ميتا ، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه ، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقا .