{ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلََئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : والذين صدّقوا بوحدانية الله ، وأقرّوا بنبوّة رسله أجمعين ، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه ولَمْ يُفَرّقُوا بينَ أحَدٍ مِنْهُمْ يقول : ولم يكذّبوا بعضهم ، ويصدّقوا بعضهم ، ولكنهم أقرّوا أن كلّ ما جاءوا به من عند ربهم حقّ . أولَئِكَ يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله ، سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ يقول : سوف يعطيهم أُجُورَهُمْ يعني : جزاءهم ، وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه وما جاءت به من عند الله . وكانَ اللّهُ غَفُورا يقول : يغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه ، فيستر عليه بعفوه له عنه وتركه العقوبة عليه ، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غَفُورا رَحِيما ، يعني : ولم يزل بهم رحيما بتفضله عليهم الهداية إلى سبيل الحقّ وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار .
لما ذكر الله تعالى أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقاً ، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعاً . وهم المؤمنون بمحمد عليه السلام ليصرح بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك ، فبين الفرق بين المنزلتين ، وقرأ بعض السبعة «سوف يؤتيهم » بالياء أي يؤتيهم الله ، وقرأ الأكثر «سوف نؤتيهم » بالنون منهم ابن كثير ونافع وأبو عمرو .
جيء بجملة { والذين آمنوا بالله ورسله } إلى آخرها ؛ لمقابلة المسيئين بالمحسنين ، والنذارةِ بالبشارة على عادة القرآن . والمراد بالذين آمنوا المؤمنون كلّهم وخاصّة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام . فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } أي غفوراً لهم ما سلف من كفرهم ، رحيماً بهم .
والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله . وقوله : { بين أحد منهم } تقدّم الكلام على مثله في قوله تعالى : { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } في سورة البقرة ( 136 ) .
وقرأ الجمهور : { نؤتيهم } بنون العظمة . وقرأه حفص عن عاصم بياء الغائب والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمنين، فقال سبحانه: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم}، يعني بين الرسل، وصدقوا بالرسل جميعا، {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم}، جزاء أعمالهم، {وكان الله غفورا رحيما}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والذين صدّقوا بوحدانية الله، وأقرّوا بنبوّة رسله أجمعين، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه، "ولَمْ يُفَرّقُوا بينَ أحَدٍ مِنْهُمْ": ولم يكذّبوا بعضهم، ويصدّقوا بعضهم، ولكنهم أقرّوا أن كلّ ما جاءوا به من عند ربهم حقّ. "أولَئِكَ": هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله، "سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ": سوف يعطيهم "أُجُورَهُمْ": جزاءهم، وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه وما جاءت به من عند الله. "وكانَ اللّهُ غَفُورا": يغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه، فيستر عليه بعفوه له عنه وتركه العقوبة عليه، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غَفُورا رَحِيما، يعني: ولم يزل بهم رحيما بتفضله عليهم الهداية إلى سبيل الحقّ وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر الله تعالى أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقاً، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعاً. وهم المؤمنون بمحمد عليه السلام ليصرح بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك، فبين الفرق بين المنزلتين.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني بذلك: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]} [البقرة: 285].
ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} على ما آمنوا بالله ورسله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: لذنوبهم أي: إن كان لبعضهم ذنوب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولم يذكر العمل هنا كما هي سنة القرآن العامة في مقام الجزاء لأن السياق هنا في مقابلة الإيمان الصحيح بالله ورسله بلا تفرقة بالكفر التام، ومقابلة وعده للمؤمنين بوعيده للكافرين. ولم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك إنهم هم الكافرون حقا، لئلا يتوهم متوهم أن كمال الإيمان يوجد وإن لم يترتب عليه لازمه من الهدى والعمل الصالح فيغتر بذلك، وقد وقع الناس في مثل هذا على كثرة ما ينافيه ويرده من آيات القرآن. أما المؤمنون حقا فقد بين الله وصفهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلب قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [الأنفال: 2-4]
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أما "المسلمون "فهم الذين يشتمل تصورهم الاعتقادي على الإيمان بالله ورسله جميعا؛ بلا تفرقة. فكل الرسل عندهم موضع اعتقاد واحترام؛ وكل الديانات السماوية عندهم حق -ما لم يقع فيها التحريف فلا تكون عندئذ من دين الله، وإن بقي فيها جانب لم يحرف، إذ أن الدين وحدة- وهم يتصورون الأمر -كما هو في حقيقته -: إلها واحدا، ارتضى للناس دينا واحدا؛ ووضع لحياتهم منهجا واحدا، وأرسل رسله إلى الناس بهذا الدين الواحد وهذا المنهج الواحد. وموكب الإيمان- في حسهم -موصول، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا -ونسبهم هم إلى هذا الموكب الموصول عريق؛ وهم حملة هذه الأمانة الكبرى، وهم ورثة هذا الخير الموصول على طول الطريق المبارك.. لا تفرقة ولا عزلة ولا انفصام. وإليهم وحدهم انتهى ميراث الدين الحق. وليس وراء ما عندهم إلا الباطل والضلال. وهذا هو "الإسلام" الذي لا يقبل الله غيره من أحد. وهؤلاء هم "المسلمون" الذين يستحقون الأجر من الله على ما عملوا، ويستحقون منه المغفرة والرحمة فيما قصروا فيه: (أولئك سوف يؤتيهم أجورهم، وكان الله غفورا رحيمًا).. والإسلام إنما يتشدد هذا التشدد في توحيد العقيدة في الله ورسله، لأن هذا التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لإلهه- سبحانه -كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظم، غير متروك للتعدد والتصادم. ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس في هذا الوجود أينما امتد بصره. ولأنه هو التصور الكفيل بضم المؤمنين جميعا في موكب واحد، يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام أحزاب الشيطان.. ولكن هذا الصف الواحد ليس هو صف أصحاب الاعتقادات المحرفة- ولو كان لها أصل سماوي -إنما هو صف أصحاب الإيمان الصحيح والعقيدة التي لم يدخلها انحراف.. ومن ثم كان "الإسلام" هو "الدين". وكان" المسلمون ""خير أمة أخرجت للناس" المسلمون المعتقدون عقيدة صحيحة، العاملون بهذه العقيدة. لا كل من ولد في بيت مسلم، ولا كل من لاك لسانه كلمة الإسلام!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين حقا وصدقا بوصفين: الوصف الأول: الإيمان بالله تعالى ورسله أجمعين، لا فرق بين رسول ورسول، إذ الجميع يؤدون رسالات ربهم ويبلغونها. والثاني: أنهم لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول بل إن الجميع في موضع من نفوسهم، والإيمان من قلوبهم. ذلك أنه حق على المؤمن أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى، كما قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)} (البقرة).
فإذا كان محمد خاتم النبيين فرسالته متممة للرسالات، وهو آخر لبنة في صرح النبوة الإلهية.
وإذا كان المؤمنون حقا وصدقا هم الذين يذعنون لما أمر الله، ويصدقون برسالاته ويستجيبون لدعوة رسول الله وهم يناقضون الذين فرقوا بين رسله، فجزاؤهم لذلك مختلف، ولذا قال سبحانه في هذا الجزاء:
{أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} الإشارة هنا إلى الذين آمنوا الموصوفين بالصفات السابقة وتكرار ذكرهم بالإشارة للتوكيد بأن الإذعان الكامل من غير استعلاء وجحود وحقد وعدم التفرقة بين الأنبياء وهو وحده الذي جعل لهم ذلك الجزاء، والأجر هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعل ذلك الثواب المقيم، والنعيم الدائم، جزاء العمل وهو أكبر من العمل، بل إن الأعمال ذاتها قد يكون فيها هفوات تستوجب الحساب ويتبعه العقاب، ولكن الله تعالى قرر في كتابه الكريم: {...إن الحسنات يذهبن السيئات (114)} (هود).
ولذلك ذيلت الآية بقوله تعالى: {وكان الله غفور رحيما} للدلالة على أن ذلك الثواب هو من فضل الله وسعة رحمته، وإن ذلك لأنه متصف بالغفران الدائم والرحمة الدائمة.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الجزاء والثواب بالتعبير بسوف الدالة على تأكيد الفعل في الزمن المستقبل.