ومع هذا النصح الزاخر بالحكم الحكيمة ، والتوجيهات السليمة ، والإِرشادات القويمة من الرجل المؤمن لقومه . . ظل فرعون سادرا فى غيه ، مصرا على كفره وضلاله . . إلا أن الرجل المؤمن لم ييأس من توجيه النصح بل أخذ يذكر وينذر ويبشر . . ويحكى القرآن الكريم كل ذلك فيقول :
{ وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان . . . } .
المراد بالصرح فى قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً . . . } البناء العالى المكشوف للناس ، الذى يرى الناظر من فوقه ما يريد أن يراه ، مأخوذ من التصريح بمعنى الكشف والإيضاح .
والأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى الشئ ، والمراد بها هنا : أبواب السماء وطرقها ، التى يصل منها إلى ما بداخلها .
أى : وقال فرعون لوزيره هامان : يا هامان ابن لى بناء ظاهرا عاليا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن كان بعيدا عنه ، لعلى عن طريق الصعود على هذا البناء الشاهق أبلغ الأبواب الخاصة بالسموات ، فأدخل منها فأنظر إلى إله موسى .
والمراد بالظن فى قوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } اليقين لقوله - تعالى - فى آية أخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } فقوله - كما حكى القرآن عنه - : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } قرينة قوية على أن المراد بالظن فى الآيتين : اليقين والجزم ، بسبب غروره وطغيانه .
أى : ونى لأعتقد وأجزن بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
أى : وإنى لأعتقد وأجزم بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
وكرر لفظ الأسباب لأن اللفظ الثانى يدل على الأول ، والشئ إذا أبهم ثم أوضح ، كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها .
وقوله : { فأطلع } قرأه الجمهور بالرفع عطفا على { أبلغ } فيكون فى حيز الترجى .
وقرأه بعض القراء السبعة بالنصب فيكون جوابا للأمر فى قوله : { ابن لِي صَرْحاً . . } .
ولا شك أن قول فرعون هذا بجانب دلالته على أنه بلغ الغاية فى الطغيان والفجور والاستخفاف بالعقول ، يدل - أيضا - على شدة خداعه ، إذ هو يريد أن يتواصل من وراء هذا القول إلى أنه ليس هناك إله سواه ولو كان هناك إلأه سواه لشاهده هو وغيره من الناس .
قال الإِمام ابن كثير : وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح ، الذى لم ير فى الدنيا بناء أعلى منه ، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما قاله ، من أن هناك إلها غير فرعون . .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وقول فرعون هذا المقصود منه التلبيس والتمويه والتخليط على قومه توصلا لبقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعرف حقيقة الإِله ، وأنه ليس فى جهة ، ولكنه أراد التلبيس ، فكأنه يقول لهم : لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره فى الأرض ، فيبقى أن يكون فى السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم .
ثم بين - سبحانه - أن مكر فرعون هذا مصيره إلى الخسران فقال : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } .
والتباب : الهلاك والخسران ، يقال : تب الله - تعالى - فلانا ، أى : أهلكه ، وتبت يدا فلان ، أى : خسرنا ومنه قوله - سبحانه - { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . } أى : ومثل ذلك التزيين القبيح ، زين لفرعون سوء عمله ، فرآه حسنا ، لفجوره وطغيانه ، وصد عن سبيل الهدى والرشاد ، لأنه استحب العمى على الهدى . وما كيد فرعون ومكره وتلبيسه واحتياله فى إبطال الحق ، إلا فى هلاك وخسران وانقطاع .
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً ، وكما أشرنا إليه في سورة القصص ، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها ، وتقدم ذكر ( هامان ) والصرح هنالك .
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة ، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } [ طه : 48 ] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم ، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل . وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم ، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته ، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى : { فخرج على قومه من المحراب } [ مريم : 11 ] وقوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } [ آل عمران : 37 ] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد ، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم .
والأسباب : جمع سبب ، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد ، فيطلق السبب على الطريق ، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل . والمراد هنا : طرق السماوات ، كما في قول زهير :
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه *** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان:"يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ" يعني بناءً...
"لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ "اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: "أسباب السموات": طرقها...
وقال آخرون: عُني بأسباب السموات: أبواب السموات...
وقال آخرون: بل عُني به مَنْزِل السماء...
وقد بيّنا فيما مضى قبل، أن السبب: هو كلّ ما تُسَبّبَ به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى، طرقا كانت تلك الأسباب منها، أو أبوابا، أو منازل، أو غير ذلك...
وقوله: "وَإني لأَظُنّهُ كاذِبا" يقول: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله: "وكَذَلكَ زُيّنَ لِفَرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ" يقول الله تعالى ذكره: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمردّ، قبيح عمله، حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات، ليطلع إلى إله موسى...
وقوله: "وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ في تَبابٍ" يقول تعالى ذكره: وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى، إلا في خسار وذهاب مال وغبن، لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلاً، ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده، فذلك هو الخسار والتباب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} تمويه منه على قومه بموسى. يقول: إن موسى إنما يدعو إلى إله في السماء، فهو نحو إله يكون في الأرض، ويحتمل أن فرعون قال ذلك لما رأى أن البركات والخيرات تنزل من السماء، فظن أنه في السماء...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَقَالَ فَرْعَوْنُ يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} الصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بُعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلي أبلغ أسباب السموات لأجزأ؟ قلت إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها؛ ولأنه لما كان بلوغها أمراً عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه...
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبرا جبارا بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم، وإن لم يصح ثبتهم على دينهم؛ فأمر وزيره هامان ببناء الصرح...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أقوال فرعون:"ذروني أقتل موسى..."، "ما أريكم إلا ما أرى..."، "يا هامان ابن لي صرحاً... "حيدة عن محاجة موسى، ورجوع إلى أشياء لا تصح، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى، هذا على كثرة سفكه الدماء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها؛ فقد ظل فرعون في ضلاله، مصراً على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً:
(وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى. وإني لأظنه كاذباً. وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب)..
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية، ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [طه: 48] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك؛ لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل. وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته؛ لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى: {فخرج على قومه من المحراب} [مريم: 11] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم...