ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من ألوان حسدهم وعنادهم فقال : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } .
والمراد بالقريتين مكة أو الطائف . . ومقصودهما إحداهما ، كالوليد بن المغيرة من مكة ، وكعروة بن مسعود من الطائف . .
ويعنون بالعظم : كثرة المال ، والرئاسة فى قومه .
أى : وقال هؤلاء المشركون - على سبل العناد والحسد - : هلا أنزل هذا القرآن ، الذى يقرؤه علينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على رجل عظيم فى ماله وسلطانه ، ويكون من إحدى هاتين القريتين ، وهما مكة أو الطائف .
فهم لجهلهم وانطماس بصائرهم ، استكثروا أن ينزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذى وإن كان فى القمة من الشرف والسمو بين قومه إلا أنه لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا ، وهم يريدون أن تكون النبوة فى زعيم من زعمائهم ، أورئيس من رؤسائهم .
وهذا منهم - كما يقول الآلوسى - لجهلهم بأن رتبة الرسالة ، إنما تستدعى عظيم النفس ، بالتخلى عن الرذائل الدنية ، والتحلى بالكمالات والفضائل القدسية ، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية .
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين } من إحدى القريتين مكة والطائف . { عظيم } بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم ، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية ، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية .
الضمير في [ قالوا ] لقريش ، وذلك أنهم استبعدوا أولا أن يرسل الله تعالى بشرا ، فلما تقرّر أمر موسى ، وعيسى ، وإبراهيم عليهم السلام ولم يكن لهم في ذلك مدفع رجعوا( {[10197]} ) يناقضون فيما يخص محمدا صلى الله عليه وسلم بعينه فقالوا : لم كان محمدا –عليه الصلاة والسلام- ولم يكن نزول الشرع على رجل من إحدى القريتين عظيم ؟ وقدر المبرد قولهم : على رجل من رجلين من القريتين ، والقريتان : مكة والطائف ، ورجل مكة الذي أشاروا إليه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقال مجاهد : هو عتبة بن ربيعة ، وقال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، ورجل الطائف ، قال قتادة : هو عُروة بن مسعود ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حبيب بن عبد بن عمير( {[10198]} ) ، وقال مجاهد : كنانة ابن عبد يا ليل .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وإنما قصدوا إلى من عَظُم ذكره بالسِّن والقِدَم ؛ وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء لكن لمَّا عظُم أولئك قبل مدّة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صباه استمرّ ذلك لهم .
عطف على جملة { قالوا هذا سحر } [ الزخرف : 30 ] فهو في حيّز جواب { لمّا } [ الزخرف : 30 ] التوقيتية واقع موقع التعجيب أيضاً ، أي بعد أن أخذوا يتعللون بالعلل لإنكار الحق إذ قالوا للقرآن : هذا سحر ، وإذ كان قولهم ذلك يقتضي أن الذي جاء بالقرآن ساحِر انتُقل إلى ذِكر طعن آخر منهم في الرّسول بأنه لم يكن من عظماء أهل القريتين .
ولولا } أصله حرف تحْضيض ، استعمل هنا في معنى إبطال كونه رسولاً على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الملازمة لأن التحْضيض على تحصيل ما هو مقطوع بانتفاء حصوله يستلزم الجزم بانتفائه .
والقريتان هما : مكة والطائف لأنّهما أكبر قُرى تهامة بلد القائلين وأما يثرب وتيماء ونحوهما فهي من بلد الحجاز . فالتعريف في { القريتين } للعهد ، جعلوا عماد التأهل لسيادة الأقوام أمرين : عظمة المسوّد ، وعظمة قريته ، فهم لا يدينون إلا من هو من أشهر القبائل في أشهر القرى لأن القرى هي مأوى شؤون القبائل وتموينهم وتجارتهم ، والعظيم : مستعار لصاحب السؤدد في قومه ، فكأنه عظيم الذات .
روي عن ابن عباس أنهم عَنَوْا بعظيم مكة الوليدَ بن المغيرة المخزومي ، وبعظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي . وعن مُجاهد أنهم عنَوا بعظيم مكة عتبة بن رَبيعة وبعظيم الطائف كنانة بن عبد يَالِيل . وعن قتادة عنوا الوليدَ بن المغيرة وَعُروة بن مسعود الثقفي . ثم يحتمل أنهم قالوا هذا اللّفظ المحكي عنهم في القرآن ولم يسموا شخصين معيّنَيْن ، ويحتمل أنهم سمّوا شخصين ووصفوهما بهذين الوصفين ، فاقتصر القرآن على ذكر الوصفين إيجازاً مع التنبيه على ما كانوا يؤهلون به الاختيار للرسالة تحميقاً لرأيهم .
وكان الرجلان اللّذان عَنوهما ذَوَيْ مال لأنّ سَعة المال كانت من مقومات وصف السؤدد كما حكي عن بني إسرائيل قولهم : { ولم يؤت سعةً من المال } [ البقرة : 247 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند الله: هذا سحر، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف.
واختُلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم، فقالوا: هلاّ نزل عليه هذا القرآن؛ فقال بعضهم: هلاّ نزل على الوليد بن المُغيرة المخزومي من أهل مكة، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف؟... وقال آخرون: بل عُنِي به عُتْبةُ بن ربيعة من أهل مكة، وابن عبد يالِيل، من أهل الطائف...
وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المُغيرة، ومن أهل الطائف: ابن مسعود...اسمه عروة بن مسعود...
وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المغيرة، ومن أهل الطائف: كنانة بن عَبدِ بن عمرو...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جلّ ثناؤه، مخبرا عن هؤلاء المشركين "وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ "إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء، ولم يضع الله تبارك وتعالى لنا الدلالة على الذين عُنُوا منهم في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والاختلاف فيه موجود على ما بيّنت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ظنوا أن من عظُم قدره ومنزلته عند الخلق بما وُسّع عليه، وأُعطي من الأموال، هو عند الله كذلك. قالوا لو كان ما يقول محمد حقا: إن هذا القرآن إنما أُنزل من عند الله هلاّ أُنزل على رجل من القريتين عظيم؟
فأخبر عز وجل أنه لم يوسّع الدنيا على من وسّع لفضل منزلته وقدره عنده،
وضيّق على من ضيق لهوان له عنده. لكن رُبّ مضيق عليه مكرّم عظيم عند الله، وربّ مُوسّع عليه يكون مهانا عنده.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
من الكبر والتعزز، كان حسدا أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم، وكيف نطأطئ رؤوسنا؟ فقالوا: {لولا نزلا هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيما...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وإنما قصدوا إلى من عَظُم ذكره بالسِّن والقِدَم؛ وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء، لكن لمَّا عظُم أولئك قبل مدّة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صباه استمرّ ذلك لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملاً بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر، زيادة وإمعاناً فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال: {وقالوا} لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة، وكذا من بعده من أولاده فلم يتهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي لا يسأل عما يفعل، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم: {لولا} أي هل لا ولولا. ولما كان إنزال القرآن نجوماً على حسب التدريج، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا: {نزل} أي من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم {هذا القرآن} أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير، ففيه إشارة إلى التحقير {على رجل من القريتين} أي مكة والطائف، ولم يقل: إحدى -اغتناء عنها بوحدة رجل {عظيم} أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن نشأنا الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية، ويعلمون أن للملك المرسل له صلى الله عليه وسلم الغنى المطلق لكنهم جهلوا- مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه -أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل، فقد جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطاً للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
زعمُوا من أنَّ الرسالةَ منصبٌ جليلٌ لا يليقُ بهِ إلا مَنْ له جلالةٌ من حيثُ المالُ والجاهُ ولم يدرُوا أنَّها رتبةٌ روحانيةٌ لا يترقَّى إليَها إلا هممُ الخواصِّ المختصينَ بالنفوسِ الزكيةِ المؤيدينَ بالقوةِ القدسية المتجلينَ بالفضائلِ الأنسيةِ، وأما المتزخرفونَ بالزخارفِ الدنيويةِ المتمتعونَ بالحظوظِ فهُم من استحقاقِ تلكَ الرتبةِ بألفِ منزلٍ...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
جهلوا أن الرسالة ليست بالمال والجاه، بل لصفاء النفس عن الرذائل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقصدون بالقريتين مكة والطائف. ولقد كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من ذؤابة قريش، ثم من ذؤابة بني هاشم. وهم في العلية من العرب. كما كان شخصه [صلى الله عليه وسلم] معروفاً بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته. ولكنه لم يكن زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية. وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)!... ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض...
والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله -سبحانه- لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها؛ فاختار رجلاً ميزته الكبرى.. الخلق.. وهو من طبيعة هذه الدعوة.. وسمته البارزة.. التجرد.. وهو من حقيقة هذه الدعوة.. ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء. كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف...
وهذا إقرار منهم بأن القرآن حَقّ ولا اعتراضَ عليه، إنما اعتراضهم على شخص رسول الله، وأنه من أوسط الناس وليس عظيماً من عظمائهم، ولا سيداً من ساداتهم في القريتين أي: مكة والطائف. وقد كان في الطائف عروة بن مسعود الثقفي، وفي مكة الوليد بن المغيرة وغيرهم. فردَّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ...}.