{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } .
أى : ذلك الذى فعلناه بهم من تدبيل جنتيهم ، بحنتين ذواتى أكل خمط . . هو الجزاء العادل لهم بسبب جحودهم وترفهم وفسوقهم عن أمرنا .
وإننا من شأننا ومن سنتنا أننا لا نعاقب ولا نجازى هذا الجزاء الرادع الشديد ، إلا لمن جحد نعمنا ، وكفر بآيتاتنى ، وآثر الغى على الرشد ، والعصيان على الطاعة .
فاسم الإِشارة يعود إلى التبديل الذى تحدثت عنه الآية السابقة . وهو المفعول الثانى لجزيناهم مقدم عليه . أى : جزيناهم ذلك التبديل لا غيره . والمراد بالجزاء هنا : العقاب .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } بمعنى وهل يعاقب .
وهو الوجه الصحيح . وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلا الكفور ، على اختصاص الكفر بالجزاء ، والجزاء عام للمؤمن والكافر ، لأنه لم يرد الجزاء العام وإنما أريد الخاص وهو العقاب .
قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور .
وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم . لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور . وقال طاوس : لا يناقش إلا الكفور .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو البيداء ، عن هشام بن صالح التغلبي{[24261]} ، عن ابن خيرة - وكان من أصحاب علي ، رضي الله عنه - قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة ، والضيق في المعيشة ، والتعسر في اللذة . قيل : وما التعسر في اللذة ؟ قال : لا يصادف لذة حلالا{[24262]} إلا جاءه مَنْ يُنَغِّصه إياها .
وقوله : ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِمَا كَفَرُوا يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا بهؤلاء القوم من سبأ من إرسالنا عليهم سيل العرم ، حتى هلكت أموالهم ، وخَرِبت جناتهم ، جزاء منّا على كفرهم بنا ، وتكذيبهم رسلنا «وذلك » من قوله : ذلكَ جَزَيْناهُمْ في موضع نصب بوقوع جزيناهم عليه ومعنى الكلام : جزيناهم ذلك بما كفروا .
وقوله : وَهَلْ نُجازِي إلاّ الكَفُورَ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعضُ أهل الكوفة : «وَهَلْ يُجازَي » بالياء وبفتح الزاي على وجه ما لم يُسَمّ فاعله «إلاّ الكَفُورُ » رفعا . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : وَهَلْ نُجازِي بالنون وبكسر الزاي إلاّ الكَفُورَ بالنصب .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . ومعنى الكلام : كذلك كافأناهم على كفرهم بالله ، وهل يُجازَي إلا الكفور لنعمة الله ؟ .
فإن قال قائل : أو ما يجزي الله أهل الإيمان به على أعمالهم الصالحة ، فيخصّ أهل الكفر بالجزاء ؟ فيقال وهل يجازي إلا الكفور ؟ قيل : إن المجازاة في هذا الموضع : المكافأة ، والله تعالى ذكره وعد أهل الإيمان به التفضل عليهم ، وأن يجعل لهم بالواحدة من أعمالهم الصالحة عشرَ أمثالها إلى ما لا نهاية له من التضعيف ، ووعد المسيء من عباده أن يجعل بالواحدة من سيئاته ، مثلَها مكافأة له على جُرمه ، والمكافأة لأهل الكبائر والكفر والجزاء لأهل الإيمان مع التفضل ، فلذلك قال جلّ ثناؤه في هذا الموضع : «وَهَلْ يُجازَي إلاّ الكَفُورُ » ؟ كأنه قال جلّ ثناؤه : لا يجازَي : لا يكافأ على عمله إلا الكفور ، إذا كانت المكافأة مثل المكافَأ عليه ، والله لا يغفر له من ذنوبه شيئا ، ولا يُمَحّصُ شيء منها في الدنيا . وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه على ما وصفتُ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَهَلْ نُجازِي : نعاقِب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إلاّ الكَفُورَ إن الله تعالى إذا أراد بعبده كرامة تقبّل حسناته ، وإذا أراد بعبده هوانا أمسك عليه ذنوبه حتى يُوَافيَ به يوم القيامة . قال : وذُكر لنا أن رجلاً بينما هو في طريق من طرق المدينة ، إذا مرّت به امرأة ، فأتبعها بصره ، حتى أتى على حائط ، فشجّ وجهه ، فأتى نبيّ الله ووجهه يسيل دما ، فقال : يا نبيّ الله فعلت كذا وكذا ، فقال له نبيّ الله : «إنّ اللّهَ إذَا أرَادَ بِعَبْدٍ كَرَامَةً ، عَجّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ فِي الدنيا ، وإذَا أرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ هَوَانا أمْسَكَ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ حتى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ ، كأنّهُ عَيرٌ أبْتَر » .
استئناف بياني ناشىء عن قوله : { فأرسلنا عليهم سيل العرم } [ سبأ : 16 ] فهو من تمام الاعتراض .
واسم الإِشارة يجوز أن يكون في محل نصب نائباً عن المفعول المطلق المبيِّن لنوع الجزاء ، وهو من البيان بطريق الإِشارة ، أي جزيناهم الجزاء المشار إليه وهو ما تقدم من التبديل بجَنَّتَيْهم جنتين أخريين . وتقديمه على عامله للاهتمام بشدة ذلك الجزاء . واستحضاره باسم الإِشارة لما فيها من عظمة هوله .
ويجوز أن يكون اسم الإِشارة في محل رفع بالابتداء وتكون الإِشارة إلى ما تقدم من قوله : { فأرسلنا عليهم سيل العرم } إلى قوله : { من سدر قليل } [ سبأ : 16 ] ويكون جملة { جزيناهم } خبرَ المبتدأ والرابط ضمير محذوف تقديره : جزيناهموه .
والباء في { بما كفروا } للسبيبة و ( ما ) مصدرية ، أي بسبب كفرهم .
والكفر هو الكفر بالله ، أي إنكار إلهيته لأنهم عبَدةُ الشمس .
والاستفهام في { وهل يجازى } إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء .
و { الكفور } : الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون الله ويعبدون الشمس فهم أسوأ حالاً من أهل الشرك .
والمعنى : ما يُجَازَى ذلك الجزاء إلا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه ، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء . والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل { ذلك جزيناهم بما كفروا } تعين أن المراد : وهل يجازى مثل جزائهم إلا الكفور ، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله ، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازَى على معصيته ، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإِشارة من بيان نوع الجزاء ، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين .
وقرأ الجمهور { يجازى } بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع { الكفورُ } . وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب { الكفور } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.