وقوله { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } تعليل للأمر بالجهر بالدعوة ، بعد أن مكث صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الاسلام سرًا ثلاث سنين أو أكثر .
وقوله { كفيناك . . } من الكفاية . تقول : كفيت فلانًا المؤنة إذا توليتها عنه ، ولم تحوجه إليها . وتقول : كفيتك عدوك أى : كفيتك بأسه وشره .
والمراد بالمستهزئين : أكابر المشركين في الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم .
أى : إنا كفينا الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك ، وأرحناك منهم ، بإهلاكهم . وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم ، وهم : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطل ، والعاص بن وائل : وقد أهلكهم الله جميعًا بمكة ، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم .
قال الإِمام الرازى : واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين ، وفى أسمائهم ، وفى كيفية طريق استهزائهم ، ولا حاجة إلى شيء منها .
والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة ، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة ، مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره ، وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله - تعالى - أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم .
يقول تعالى آمرًا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه{[16290]} والصَّدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أي : أمضه . وفي رواية : افعل ما تؤمر .
وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة .
وقال أبو عبيدة ، عن{[16291]} عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا ، حتى نزلت : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه{[16292]}
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله . { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ولا تخفْهم ؛ فإن الله كافيك إياهم ، وحافظك منهم ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ]
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان رأسُهم الوليد بن المغيرة ، وهو الذي جمعهم .
وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة ، نحو سياق محمد بن إسحاق ، عن يزيد ، عن عروة ، بطوله ، إلا أن سعيدًا يقول : الحارث بن غيطلة . وعكرمة يقول : الحارث بن قيس .
قال الزهري : وصدقا ، هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة .
وكذا روي عن مجاهد ، ومقسم ، وقتادة ، وغير واحد ، أنهم كانوا خمسة .
القول في تأويل قوله تعالى { إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنا كفيناك المستهزئين يا محمد ، الذين يستهزئون بك ويسخرون منك ، فاصدع بأمر الله ، ولا تَخَفْ شيئا سوى الله ، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك كما كفاك المستهزئين . وكان رؤساء المستهزئين قوما من قريش معروفين . ذكر أسمائهم :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد ، ، قال : كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عُروة بن الزّبير خمسة نَفَر من قومِه ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العُزّي بن قُصَيّ : الأسود بن المطلب أبو زَمْعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : «اللهمّ أعم بصره ، وأثْكِلْهُ وَلَدَهُ » . ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة . ومن بني مخزوم : الوليدُ بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم . ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ : العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سَهْم . ومن خُزاعة : الحارث بن الطّلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن مَلْكان . فلما تمادَوْا في الشرّ وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ، أنزل الله تعالى ذكره : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكينَ إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ . . . إلى قوله : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . قال محمد بن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان ، عن عُروة بن الزبير أو غيره من العلماء : أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الأسود بن المطلب ، فرمى في وجهه بورقة خضراء ، فعَمِي . ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه فمات منه حبنا . ومرّ به الوليد بن المُغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين ، وهو يجرّ سَبَلَهُ ، يعني إزاره وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَريش نبلاً له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش وليس بشيء ، فانتقَضَ به فقتله . ومرّ به العاص بن وائل السّهمِيّ ، فأشار إلى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد الطائف فوُقِصَ على شِبْرِقة ، فدخل في أخمص رجله منها شوكة ، فقتلته قال أبو جعفر : الشّبرقة : المعروف بالحَسَك ، منه حَبَنا ، والحَبَن : الماء الأصفر ومرّ به الحارث بن الطّلاطلة ، فأشار إلى رأسه ، فامتخض قيحا فقتله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد القرشيّ ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قال : كان رأسهم الوليد بن المُغيرة ، وهو الذي جمعهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : كان المستهزؤون : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن عيطلة . فأتاه جبرئيل ، فأومأ بأصبعه إلى رأس الوليد ، فقال : «ما صَنَعْتَ شيئا » ، قال : كُفِيت . وأومأ بيده إلى أخمص العاص ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما صَنَعْتَ شَيْئا » . فقال : كُفِيت . وأومأ بيده إلى عين أبي زمعة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما صَنَعْتَ شَيْئا ، قال : كُفِيت . وأومأ بأصبعه إلى رأس الأسود ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «دَعْ لي خالي » فقال : كُفِيت . وأومأ بأصبعه إلى بطن الحارث ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما صَنَعْتَ شَيْئا » فقال كُفِيت . قال : فمرّ الوليد على قين لخزاعة وهو يجرّ ثيابه ، فتعلقت بثوبه بروة أو شررة ، وبين يديه نساء ، فجعل يستحي أن يطأ من ينتزعها ، وجعلت تضرب ساقه فخدشته ، فلم يزل مريضا حتى مات . وركب العاص بن وائل بغلة له بيضاء إلى حاجة له بأسفل مكة ، فذهب ينزل ، فوضع أخمص قدمه على شبرقة فحكت رجله ، فلم يزل يحكها حتى مات . وعمي أبو زمعة وأخذت الأكلة في رأس الأسود وأخذ الحارث الماء في بطنه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : هم خمسة رهط من قريش : الوليدُ بن المغيرة ، والعاصُ بن وائل ، وأبو زمعة ، والحارث بن عيطلة ، والأسود بن قيس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السّهْمِيّ ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطلة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، في قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : هم خمسة كلهم هلك قبل بَدْر : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة بن عبد الأسود ، والحارث بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو ، عن عكرمة : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن عيطلة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بكر الهذلي ، قال : قلت للزّهريّ : إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين ، فقال سعيد : هو الحارث بن عيطلة ، وقال عكرمة : هو الحارث بن قيس ؟ فقال : صدقا ، كانت أمه تسمى عيطلة وأبوه قيس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن الشعبيّ ، قال : المستهزئين سبعة . وسَمّى منهم أربعة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : كانوا من قريش خمسة نفر : العاص بن وائل السهمي ، كُفِي بصُداع أخذه في رأسه ، فسال دماغه حتى كان يتكلم من أنفه . والوليد بن المغيرة المخزومي ، كفي برجل من خزاعة أصلح سهما له ، فندرت منه شظية ، فوطىء عليها فمات . وهبار بن الأسود ، وعبد يغوث بن وهب ، والحارث بن عيطلة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال : كلهم من قريش : العاص بن وائل ، فكفي بأنه أصابه صداع في رأسه ، فسال دماغه حتى لا يتكلم إلاّ من تحت أنفه . والحارث بن عيطلة بصفر في بطنه وابن الأسود فكفي بالجدري والوليد بأن رجلاً ذهب ليصلح سهما له ، فوقعت شظية فوطىء عليها وعبد يغوث فكفي بالعمي ، ذهب بصره .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وعن مقْسم : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ قال هم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعديّ بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، مرّوا رجلاً رجلاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه جبرئيل ، فإذا مرّ به رجل منهم قال جبرئيل : كيف تجد هذا ؟ فيقول : «بئس عدوّ الله » فيقول جبرئيل : كفاكه .
فأما الوليد بن المغيرة فتردّى ، فتعلق سهم بردائه ، فذهب يجلس فقطع أكحله فنُزِف فمات . وأما الأسود بن عبد يغوث ، فأُتِي بغصن فيه شوك ، فضرب به وجهه ، فسالت حدقتاه على وجهه ، فكان يقول : دعوت على محمد دعوة ، ودعا عليّ دعوة ، فاستجيب لي ، واستجيب له دعا عليّ أن أعمَى فعميت ، ودعون عليه أن يكون وحيدا فريدا في أهل يثرب فكان كذلك . وأما العاص بن وائل ، فوطىء على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه حتى هلك . وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس ، فإن أحدهما قام من الليل وهو ظمآن ، فشرب ماء من جَرّة ، فلم يزل يشرب حتى انفتق بطنه فمات وأما الاَخر فلدغته حية فمات .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وعثمان ، عن مِقْسم مولى ابن عباس ، في قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ هم رهط خمسة من قريش عضهوا القرآن ، زعم بعضهم أنه سحر وزعم بعضهم أنه شعر وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين . أما أحدهم : فالأسود بن عبد يغوث ، أتى على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو عند البيت ، فقال له الملَك : كيف تجد هذا ؟ قال : «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ على أنّهُ خالي » قال : كفيناك . ثم أتى عليه الوليد بن الغيرة ، فقال له الملَك : كيف تجد هذا ؟ قال : «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ » قال : كفيناك . ثم أتى عليه عديّ بن قيس أخو بني سهم ، فقال الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ » قال : كَفيناك . ثم أتى عليه الأسود بن المطلب ، فقال له الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ » قال : كفيناك . ثم أتى عليه العاص بن وائل ، فقال له الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : «بِئْسَ عَبْدُ اللّهِ » قال : كفيناك . فأما الأسود بن عبد يغوث ، فأتي بغصن من شوك فضرب به وجهه حتى سالت حدقتاه على وجهه ، فكان بعد ذلك يقول : دعا عليّ محمد بدعوة ودعوت عليه بأخرى ، فاستجاب الله له فيّ واستجاب الله لي فيه دعا عليّ أن أثكل وأن أعمى ، فكان كذلك ودعوت عليه أن يصير شريدا طريدا ، فطردناه مع يهود يثرب وسرّاق الحجيج ، وكان كذلك . وأما الوليد بن المغيرة ، فذهب يرتدي ، فتعلق بردائه سهم غرب ، فأصاب أكحله أو أبجله ، فأتي في كلّ ذلك ، فمات . وأما العاص بن وائل ، فوطىء على شوكة ، فأتي في ذلك ، جعل يتساقط لحمه عضوا عضوا فمات وهو كذلك . وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس ، فلا أدري ما أصابهما . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، نهى أصحابه عن قتل أبي البختري ، وقال : «خُذُوهُ أخْذا ، فإنه قد كَانَ له بَلاء » فقال له أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أبا البختري إنا قد نهينا عن قتلك فهلمّ إلى الأمنة والأمان فقال أبو البختري : وابن أخي معي ؟ فقالوا : لم نؤمر إلاّ بك . فراودوه ثلاث مرّات ، فأبى إلا وابن أخيه معه ، قال : فأغلظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم الكلام ، فحمل عليه رجل من القوم فطعنه فقتله ، فجاء قاتله وكأنما على ظهره جبل أوثقه مخافة أن يلومه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أخبر بقوله : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أبْعَدَهُ اللّهُ وأسْحَقَهُ » وهم المستهزِئُونَ الّذِينَ قال الله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ وهم الخمسة الذين قيل فيهم : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ استهزءوا بكتاب الله ، ونبيه صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّا كَفَيْناك المُسْتَهْزِئِينَ هم من قريش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، وزعم ابن أبي بَزّة أنهم العاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة الوحيد ، والحارث بن عديّ بن سهم بن العيطلة ، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصّي ، وهو أبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، نحو حديث محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور ، غير أنه قال : كانوا ثمانية . ثم عدّهم وقال : كلهم مات قبل بدر .
{ إنا كفيناك المستهزئين } بقمعهم وإهلاكهم . قيل كانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، و العاص بن وائل ، وعدي بني قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، يبالغون في إيذائه النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، وإلى عيني الأسود بن المطلب فعمي .
جملة { إنا كفيناك المستهزئين } تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به ، فإن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمّها تعدّد الداخلين في الإسلام في تلك المدّة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدّين مع أن دعوته مخفية ، ثم إن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيّأ اعتبارها في علمه تعالى .
والتّعبير عنهم بوصف { المستهزئين } إيماء إلى أنّه كفاه استهزاءهم وهو أقلّ أنواع الأذى ، فكفايته ما هو أشدّ من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحْرى .
وتأكيد الخبر ب ( إنّ ) لتحقيقه اهتماماً بشأنه لا للشكّ في تحقّقه .
والتّعريف في { المستهزءين } للجنس فيفيد العموم ، أي كفيناك كل مستهزء . وفي التّعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء ، كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ سورة آل عمران : 111 ] ، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء . وذلك لطف من الله برسوله .
ومعنى الكفاية تولّي الكافي مهم المكفي ، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي . يقال : كفيتُ مهمك ، فيتعدّى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه . فالأصل أن يكون مصدراً فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدلّ عليها المقام ، فإذا قلت : كفيتك عدوّك ، فالمراد : كفيتك بأسه ، وإذا قلت : كفيتك غريمك ، فالمراد : كفيتك مطالبتَه . فلما قال هنا { كفيناك المستهزئين } فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم . وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم .
ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة ، كما في « الإتقان » في ذكر أسماء السور .
وعُد من كبرائهم خمسة هم : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن عيطلة ( ويقال ابن عيطل وهو اسم أمّه دُعِي لها واسم أبيه قيس . وفي « الكشاف » و« القرطبي » أنه ابن الطُلاَطِلَة ، ومثله في « القاموس » ، وهي بضم الطاء الأولى وكسر الطاء الثّانية ) والعاصي بن وائل ، هلكوا بمكّة متتابعين ، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفاً أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عِقدهم .
وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيّاً ؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فاعتزّ به المسلمون ، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلاّ الاستهزاء ، ثم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخشيه سفهاء المشركين ، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة .