وضمير الفاعل المستتر فى قوله - سبحانه - : { وَجَعَلَهَا . . . } يعود إلى الله - تعالى - .
أى : وجعل الله - تعالى - بفضله وكرمه ، كلمة التوحيد ، باقية فى عقب ابراهيم ، وفى ذرتيه من بعده ، بأن جعل من ذريته الأنبياء والصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا .
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - فى سورة الصافات : { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ . . }
ويصح أن يكون ضمير الفاعل يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - ، على معنى أنه وصى ذريته من بعده بعبادة الله - تعالى - وحده ، وأنه دعا ربه أن يجعل فى ذريته من يعبده وحده .
فيكون المعنى : وجعل ابراهيم هذه الكلمة وهى كلمة التوحيد باقية فى ذريته حيث أوصافهم بعبادة الله وحده .
ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { ووصى بِهَآ } - أى بكلمة التوحيد - { إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ . . } .
ثم بين - سبحانه - الحكمة فى ذلك الجعل فقال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أى : جعلها كذلك رجاء أن يرجع إلى كملة التوحيد من أشرك من ذرية ابراهيم ، ببركة دعائه لهم بالإِيمان ودعاء من آمن منهم .
فلقد حكى القرآن عن إبراهيم أن دعا الله - تعالى - بقوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي . . . } وبقوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام }
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : هذه الكلمة ، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان ، وهي " لا إله إلا الله " أي : جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم ، عليه السلام ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : إليها .
وقال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم{[1]} في قوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } يعني : لا إله إلا الله ، لا يزال في ذريته من يقولها . ورُوي نحوه عن ابن عباس .
وقال ابن زيد : كلمة الإسلام . وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة .
وقوله : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ يقول تعالى ذكره : وجعل قوله : إنّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ إلاّ الّذِي فَطَرَنِي وهو قول : لا إله إلا الله ، كلمة باقية في عقبه ، وهم ذرّيته ، فلم يزل في ذرّيته من يقول ذلك من بعده . واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه ، فقال بعضهم : بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال : لا إله إلا الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، والتوحيد لم يزل في ذرّيته من يقولها من بعده .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال : التوحيد والإخلاص ، ولا يزال في ذرّيته من يوحد الله ويعبده .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجَعَلها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال : لا إله إلا الله . وقال آخرون : الكلمة التي جعلها الله في عقبه اسم الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ فقرأ إذْ قالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِمْ ، قالَ أسْلَمْتُ لِرَبّ العَالَمِينَ قال : جعل هذه باقية في عقبه ، قال : الإسلام ، وقرأ هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فقرأ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لك . وبنحو ما قلنا في معنى العقب قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي عَقِبِهِ قال : ولده .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال : يعني من خلَفه .
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فِي عَقِبِهِ قال : في عقب إبراهيم آل محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب أنه كان يقول : العقب : الولد ، وولد الولد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فِي عَقِبِهِ قال : عقبه : ذرّيته .
وقوله : لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : ليرجعوا إلى طاعة ربهم ، ويثوبوا إلى عبادته ، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ : أي يتوبون ، أو يذّكرون .
والضمير في قوله : { وجعلها كلمة } قالت فرقة : ذلك عائد على كلمته بالتوحيد في قوله : { إنني براء } وقال مجاهد وقتادة والسدي ، ذلك مراد به : لا إله إلا الله ، وعاد الضمير عليها وإن كانت لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها . وقال ابن زيد : المراد بذلك : الإسلام ولفظته ، وذلك قوله عليه السلام : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }{[1]} وقوله : { إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين }{[2]} وقول الله تعالى { هو سماكم المسلمين من قبل }{[3]} . والعقب : الذرية وولد الولد ما امتد فرعهم .