ثم قال - تعالى - { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } أى فيما أمر به من أوامر وفيما نهى عنه من منهيات { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } التى تتعلق بالمواريث وغيرها بأن يتجاوزها ويخالف حكم الله فيها .
{ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } أى . يدخله نارا هائلة عظيمة خالدا فيها خلودا أبديا إن كان من أهلا لكفر والضلال . وخالدا فيها لمدة لا يعلمها إلا الله إن كان من عصاة المؤمنين .
وقال هنا { خَالِداً فِيهَا } بالإِفراد ، وقال فى شأن المؤمنين { خَالِدِينَ فِيهَا } بالجمع ، للإِيذان بأن أهل الطاعة جديرون بالشفاعة . فإذا شفع أحدهم لغيره وقبل الله شفاعته . دخل ذلك الغير معه فى رضوان الله .
أما أهل الكفر والمعاصى فليسوا أهلا للشفاعة ، بل يبقون فرادى ، تحيط بهم الذلة والمهانة من كل جانب .
أو للاشعار بأن الخلود فى دار الثواب يكون على هيئة الاجتماع الذى هو أجلب للأنس والبهجة .
وبأن الخلود فى دار العقاب يكون على هيئة الانفراد الذى هو أشد فى استجلاب الوحشة والهم .
وقوله { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى لهذا العاصى لله ولرسوله ، والمتعدى للحدود التى رسمها الله ، عذاب عظيم من شأنه أن يخزى من ينزل به ويذله { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد وضحت أحكام المواريث بأبلغ بيان ، وأحكم تشريع ، وبشرت المستحببين لشرع الله يجزيل الثواب ، وأنذرت المعرضين عن ذلك بسوء المصير . هذا ، ومن الأحكام والفوائد التى يمكن أن نستخلصها من هذه الآيات ما يأتى :
أولا : أن ترتيب الورثة قد جاء فى الآيتين الكريمتين على أحسن وجه ، وأتم بيان ، وأبلغ أسلوب وذلك لأن الوارث - كما يقول الإِمام الرازى - إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة .
فإن اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون هو النسب أو الزوجية ، فحصل هنا أقسام ثلاثة :
أولها : أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب ، وذلك هو قرابة الولاد ويدخل فيها الأولاد والوالدان ، فالله - تعالى - قدم حكم هذا القسم .
وثانيها : الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية . وهذا القسم متأخر فى الشرف عن القسم الأول ! لأن الأول ذاتى وهذا الثاني عرض ، والذاتى أشرف من العرض .
وثالثها : الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة . وهو متأخر فى الشرف عن القسمين الأولين ، لأنهما لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية ، ولأنهم يتصلان بالميت بغير واسطة بخلاف الكلالة .
فما أحسن هذا الترتيب ، وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات .
ثانيا : أن الآيتين الكريمتين قد بينتا الوارثين والوارثات ونصيب كل وارث بالأوصاف التى جعلها الله - تعالى - سببا فى استحقاق الإِرث كالبنوة والأبوة والزوجية والأخوة . وقد ألغتا بالنسبة إلى اصل الاستحقاق الذكورة والأنوثة والصغر والكبر وجعلنا للكل حقا معينا فى الميراث . وبهذا أبطلتا ما كان عليه الجاهليون من جعل الإِرث بالنسب مقصورا على الرجال دون النساء والأطفال ، وكانوا يقولون : " لا يرث إلا من طاعن بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة " .
ثالثا : أن قوله - تعالى - : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } إلخ يعم أولاد المسلمين والكافرين والأحرار والأرقاء والقاتلين عمدا وغير القاتلين إلا أن السنة النبوية الشريفة قد خصصت بعض هذا العموم ، حيث أخرجت الكافر من هذا العموم لحديث :
" لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " وعلى هذا سار جمهور العلماء فلم يورثوا مسلما من كافر ولا كافرا من مسلم .
وذهب بعضهم إلى أن الكفار لا يرث المسلم ولكن المسلم يرث الكافر .
كذلك نصف العلماء على أن الحر والعبد لا يتوارثان ؛ لأن العبد لا يملك ، وعلى أن القاتل عمدا لا يرث من قتله معاملة بنفيس مقصوده .
رابعا : أن نصيب الأولاد إذا كافوا ذكورا وإناثا يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم .
وأن الأولاد يطلقون على فروع الشخص من صلبه . أى أبنائه وأبناء أبنائه ، وبنات أبنائه .
وأن أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات أبنائه . أى أن الطبقة الأولى تستوفى حقها فى الميراث قبل من يليها .
وأن الأبناء والأبوين والزوجين لا يسقطون من أصل الاستحقاق للميراث بحال ، إلا أنهم قد يؤثر عليهم وجود غيرهم فى المقدار المستحق .
وأنه متى أجتمع فى المستحقين للميراث ذكور وإناث من درجة واحدة ، أخذ الذكر مثل حظ الأنثيين إلا ما سبق لنا استثناؤه .
خامسا : لا يجوز للمورث أن يسئ إلى ورثته لا عن طريق الوصية ولا عن طريق الدين ولا عن أى طريق آخر . لأن الله - تعالى - قد نهى عن المضارة فقال : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله } .
وإن بدء الآيتين الكريمتين بقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } .
وختم أولاهما : بقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } وختم ثانيتهما بقوله { وَصِيَّةً مِّنَ الله } هذا البد والختام لجديران بأن يغرسا الخشية من الله فى قلوب المؤمنين الذين يخافون مقام ربهم ، وينهون أنفسهم عن السير فى طريق الهوى والشيطان .
سادساً : أنه يجب تقديم حقوق الميت على تقسيم التركة ، فقد كرر الله - تعالى - قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } كما سبق أن بينا .
قال القرطبى : ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ، ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان فى معناها على مراتبها أيضا . ويكون الباقى ميراثا بين الورثة .
وجملتهم سبعة عشر . عشرة من الرجال وهم : الابن وابن الابن وإن سفل والاب وأب الأب وهو الجد وإن علا . والأخ وابن الأخ . والعم وأبن العم . والزوج ومولى النعمة . ويرث من النساء سبع وهن : البنت وبنت الابن وإن سفلت ، والأم والجدة وإن علت . والأخت والزوجة . ومولاة النعمة وهى المعتقة .
وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة ، يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى . . يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين : أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب . والثانية تمس مكان الرهبة من النار ، والخوف من السعير ، في مشهد حسي مفزع :
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ، وسيصلون سعيرا ) . .
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب . قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار . بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح ، لا راحم لهم ولا عاصم . كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم ، بعد أن فقدوا الآباء . فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غدا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء ، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء . . مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار ، لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان . وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولا سديدا ، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم . .
وقوله : { ومن يعص الله ورسوله } الآية ، قرأ نافع وابن عامر «ندخله » بنون العظمة ، وقرأ الباقون يدخله بالياء فيهما جميعاً ، وهذه آيتا وعد ووعيد ، وتقدم الإيجاز في ذلك ، ورجَّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث ، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة ، وقد كلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن وغيره .
قولُه : { خالداً فيها } استُعمل الخلود في طول المدّة . أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الأتمُّ وهو نبذ الإيمان ، لأنّ القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر ، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام ، فما يخالف ذلك إلاّ من كان غير ثابت الإيمان إلاّ من تاب .
ولعلّ قوله : { وله عذاب مهين } تقسيم ، لأنّ العصيان أنواع : منه ما يوجب الخلود ، ومنه ما يوجب العذاب المهين ، وقرينة ذلك أنّ عطف { وله عذاب مهين } على الخلود في النار لا يُحتاج إليه إذا لم يكن مراداً به التقسيم ، فيضطرّ إلى جعله زيادةَ توكيد ، أو تقول إنّ محط العطف هو وصفه بالمهين لأنّ العرب أباة الضيم ، شمّ الأنوف ، فقد يحذرون الإهانة أكثر ممّا يحذرون عذاب النار ، ومن الأمثال المأثورة في حكاياتهم ( النار ولا العار ) . وفي كتاب « الآداب » في أعجاز أبياته « والحرّ يصبر خوف العار للنار » .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { ندخله } في الموضعين هنا بنون العظمة ، وقرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة .