وبعد هذه الصورة المشرقة لهؤلاء المكرمين . . أخذت السورة فى تصوير موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الحق ، وفى تسليته عما لحقه منهم من أذى ، وفى بيان أحوالهم السيئة عندما يعرضون للحساب . . فقال - تعالى - .
{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ . عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا ، ومن تصرفاتهم التى تل على منتهى الغفلة والجهل . و " ما " مبتدأ ، و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } خبره .
وقوله { مُهْطِعِينَ } من الإِهطاع ، وهو السير بسرعة ، مع مد العنق ، واتجاه البصر نحو شئ معين .
و { عِزِينَ } جمع عزة - كفئة - وهى الجماعة . وأصلها عِزْوَة - بكسر العين - من العزو ، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ، فلامها واو ، وقيل : لامها هاء ، والأصل عزهة .
قال القرطبى : والعزين : جماعات متفرقة . ومنه الحديث الذى خرجه مسلم وغيره ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حِلَقا فقال : مالى أراكم عزين : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ، ويتراصون فى الصف " .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات ، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبى صلى الله عليه وسلم ويستمعون إليه ، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم .
والمعنى : ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك - أيها الرسول الكريم - وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك ، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك ، جماعات متعددة ، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك ؟
ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم فى قراءة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين " .
وقدم - سبحانه - الظرف { قِبَلَكَ } الذى بمعنى جهتك ، على قوله { مُهْطِعِينَ } للاهتمام ، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإِسراع هو الاتجاه نحو النبى صلى الله عليه وسلم للاستهزاء به وبأصحابه .
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو القرآن . ثم يتفرقون حواليه جماعات . ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون :
فما للذين كفروا قبلك مهطعين ? عن اليمين وعن الشمال عزين ? . .
المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود . وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى . . وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة . وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها . وتعجب منهم . وتساؤل عن هذا الحال منهم ! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون !
وقوله تعالى : { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } الآية نزلت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحياناً ويقرأ القرآن ، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض : شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك .
و { قبلك } معناه فيما يليك ، و : «المهطع » الذي يمشي مسرعاً إلى شيء قد أقبل عليه ببصره . وقال ابن زيد : لا يطرف .
تفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم .
فرع ذلك على ما أفاده في قوله : { أولئك جنات مكرمون } [ المعارج : 35 ] .
والمعنى : أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم .
وهذا وإن كان خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه .
ومعنى { فما للذين كفروا } : أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك ، أو في حال إهطاعهم إليك .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا } في سورة البقرة ( 246 ) . وتركيب ما لَه لا يخلو من حال مفردة ، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبَّ الاستفهام . فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف ، أي { قِبَلَك } فيكون ظرفاً مستقراً وصاحب الحال هو { للذين كفروا } . ويجوز أن تكون { مهطعين ، } فيكون { قِبَلَك } ظرفاً لغْواً متعلقاً ب { مهطعين . } وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخَر المُجرى اللائق به في التركيب . وكتب في المصحف اللام الداخلة على { الذين } مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر .
والإِهطاع : مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى : { مهطعين إلى الداع } في سورة القمر ( 8 ) .
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب « الكشاف » : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم . فأنزل الله هذه الآية .
وتقديم الظرف على { مهطعين } للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.