ثم مضى القرآن في دعوته إياهم إلى التدبر والتعقل فقال : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } .
أى : إن هذه الآصناف التي تعبدونها من دون الله ، أو تنادونها لدفع الضرب أو جلب النفع { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أى : مماثلة لكم في كونها مملوكة لله مسخرة مذللة لقدرته كما أنكم أنتم كذلك فكيف تعبدونها أو تنادونها ؟
وأطلق عليها لفظ { عِبَادٌ } - مع أنها جماد - وفق اعتقادهم فيها تبكيتا لهم وتوبيخا .
وقوله { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أى : فادعوهم في رفع ما يصيبكم من ضر ، أو في جلب ما أنتم في حاجة إليه من نفع { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في زعمكم أن هذه الأصنام قادرة على ذلك .
ثم تابع القرآن تقريعه لهذه الأصنام وعابديها فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } .
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم . فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ )
لقد كانت وثنية مشركي العرب وثنية ساذجة - كما أسلفنا - سخيفة في ميزان العقل البشري في أية مرحلة من مراحله ! ومن ثم كان القرآن ينبه فيهم هذا العقل ؛ وهو يواجههم بسخافة ما يزاولونه من الشرك بمثل هذه الآلهة .
قرأ جمهور الناس «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » بتثقيل «إنّ » ورفع «عبادٌ » وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم أي إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة ، إذ هي أجسام وأجرام فهي متعبدة أي متملكة ، وقال مقاتل ، إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة ، وقرأ سعيد بن جبير «إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم » بتخفيف النون من «إنْ » على أن تكون بمعنى ما وبنصب قوله «عباداً وأمثالكم » ، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر ، بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل ، وسيبويه يرى أن «إن » إذا كانت بمعنى «ما » فإنها تضعف عن رتبة «ما » فيبقى الخبر مرفوعاً وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه ، فكان الوجه عنده في هذه القراءة «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل «ما » في نصب الخبر ، وزعم الكسائي أن «إن » بمعنى «ما » لا تجيء إلا وبعدها إلا كقوله تعالى : { إن الكافرون إلا في غرور } ثم بين تعالى الحجة بقوله { فدعوهم } أي فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا .
هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب ، بقوله : { وإن تَدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] الآية ، النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به إلى مخاطبة المشركين ، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية ، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .
والمراد بالذين تدعون من دون الله : الأصنام ، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطأ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله ، في حين هي ليست أهلا لذلك ، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب :
إن الذين تُرْوَنُهم إخوانكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا
ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق : أن تكون هذه الجملة بياناً وتعليلاً لجملة { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] أي لأنهم عباد أي مخلوقون .
و ( العبد ) أصله المملوك ، ضد الحر ، كما في قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] وقد أطلق في اللسان على المخلوق : كما في قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] ولذلك يطلق العبد على الناس ، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاقُ العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق ، وجعله صاحب « الكشاف » اطلاقَ تهكم واستهزاء بالمشركين ، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم ، قال ولذلك أبطل أن يكونوا عباداً بفوله { ألهم أرجل } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره .
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة .
وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله { فادعوهم } فإنه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله { فليستجيبوا لكم } المضمن إجابة الأصنام إياهم ، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة ، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم ، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لانهاض حجتهم ، فئال ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين ، قال تعالى : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] .
والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم بأي مكان .
وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كناية عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم ، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبة الاستجابة .
والأمر باللام في قوله : { فليستجيبوا } أمرُ تعجيز للأصنام ، وهو أمر الغائب فإن طريق أمر الغائب هو الأمر .
ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلِّغ الأمر للغائب .
وهذا أيضاً كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابه لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها .