مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (194)

ثم قوى هذا الكلام بقوله : { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وهذا مثل قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل ، وههنا عطف الاسم على الفعل لأن قوله : { أدعوتموهم } جملة فعلية : وقوله : { أم أنتم صامتون } جملة اسمية .

واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة ، وتلك الفائدة هي أن صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالا بعد حال ، وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار .

إذا عرفت هذا فنقول : إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين ، فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم ، فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ، ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية ، فقال : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } وفيه سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات ؟ وجوابه من وجوه : الأول : أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع ، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ، ولذلك قال : { فادعوهم فليستجيبوا لكم } ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال : { إن الذين } ولم يقل التي .

والجواب الثاني : أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا وجعلتموها آلهة وأربابا ؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم . فقال : { ألهم أرجل يمشون بها } ثم أكد هذا البيان بقوله : { فادعوهم فليستجيبوا لكم } ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله : { فليستجيبوا } لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ، ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقوله : { إن كنتم صادقين } أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية ، وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها ، وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع .