الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (194)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ } : العامَّة على تشديد إنَّ فالموصولُ اسمُها وعبادٌ خبرها . وقرأ سعيد بن جبير بتخفيف " إنْ " ونصب " عباد " و " أمثالكم " . وقد خَرَّجها أبو الفتح ابن جني وغيره أنها " إنْ " النافيةُ ، وهي عاملةٌ عملَ " ما " الحجازية ، وهذا مذهب الكسائي وأكثرُ الكوفيين غيرَ الفراء ، وقال به من البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد . والصحيح أن إعمالَها لغةٌ ثابتة نظماً ونثراً وأنشدوا :

إنْ هو مستولياً على أحد *** إلا على أَضْعف المجانين

ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تُثْبت ذلك ، ولا يجوز التناقض في كلام الله تعالى . وقد أجابوا عن ذلك بأن هذه القراءة تُفْهم تحقيرَ أمرِ المعبود من دون الله وغباوةَ عابدِه ، وذلك أن العابدين أتمُّ حالاً وأقدرُ على الضرِّ والنفع من آلهتهم فإنها جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك فكيف يَعْبُد الكاملُ مَنْ هو دونَه ؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأَوْلى .

وقد ردَّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه ، أحدها : مخالفتُها لسواد المصحف . الثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر " إنْ " المخففة فيقول : " إنْ زيد منطلق " لأن عَمَلَ " ما " ضعيف و " إنْ " بمعناها فهي أضعف منها . الثالث : أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى " ما " إلا أن يكون بعدها إيجاب . وما ردَّ به النحاس ليس بشيء لأنها مخالَفَةٌ يسيرة . قال الشيخ : " ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالِفَةً للسواد " . وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك . وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له . وخرَّج الشيخ القراءة على أنها " إنْ " المخففة قال : " وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة " وإنْ كلاً " ، ثم إنها قد ثبت لها نصب الجُزْأَين ، وأنشد :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا

قال : " وهي لغة ثابتة " ثم قال : " فإن تأوَّلنا ما ورد من ذلك نحو :

يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعا ***

أي : تُرى رواجعا/ فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم " . قلت : فيكون هذا التخريج مبنياً على مذهبين أحدهما : إعمال المخففة وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنه أقل من الإِهمال ، وعبارة بعضهم " إنه قليل " ولا أرتضيه لوروده في المتواتر . والثاني : أن " إنَّ " وإخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح . وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه : كون " إنْ " نافيةً عاملةً ، أو المخففة الناصبة للجزأين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى .

وقرأ بعضهم " إنْ " مخففة ، " عباداً " نصباً ، " أمثالُكم " رفعاً ، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أُهملت ، و " الذين " مبتدأ ، و " تدعون " صلتها ، والعائد محذوف ، و " عبادٌ " حال من ذلك العائد المحذوف ، و " أمثالكم " خبره . والتقدير : إن الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يُعبدون ؟ ويَضْعُف أن يكون الموصول اسماً منصوبَ المحل لأن إعمالَ المخففة كما تقدَّم قليلٌ .

وحكى أبو البقاء أيضاً قراءةً رابعةً وهي بتشديد " إنَّ " ، ونصب " عباد " ، ورفع " أمثالكم " ، وتخريجها على ما تقدم قبلها .