اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (194)

قوله : " إنَّ الذينَ " العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها ، وعبادٌ خبرها ، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ{[17082]} بتخفيف إنْ ونصب عباد وأمثالكم ، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء ، وقال به من البصريين : ابن السراج والفارسي وابن جنِّي ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد ، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظماً ونثراً ؛ وأنشدوا : [ المنسرح ]

إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً على أحِدٍ *** إلاَّ على أضْعَفِ المجانينِ{[17083]}

ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى .

وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه .

وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالاً وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك ، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه ؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى .

وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ .

والثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول : " إنْ زيدٌ منطلقٌ " ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها ، فهي أضعف منها .

الثالث : أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب ، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة .

قال أبُو حيان{[17084]} : يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف ، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد .

وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك .

وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له .

وخرَّج أبو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة .

قال : وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة { وَإِنَّ كُلاًّ } [ هود : 111 ] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين ؛ وأنشد : [ الطويل ]

. . . *** إنَّ حُرَّاسنَا أُسْدَا{[17085]}

قال : وهي لغة ثابتة ثم قال : فإن تأوَّلوا ما ورد من ذلك ؛ نحو : [ الرجز ]

يَا لَيْتَ أيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعا{[17086]} *** . . .

أي : تُرَى رواجعاً ، فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم .

قال شهابُ الدِّين{[17087]} : فيكون هذا التَّخريج مبنياً على مذهبين .

أحدهما : إعمالُ المخففَّة .

وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال ، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل ، ولا أرتضيه قليلاً لوروده في المتواتر .

الثاني : أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين ، وهو مذهبٌ مرجوح ، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه : كون إنْ نافية عاملة ، والمخففة الناصبة للجزءين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى .

وقرأ بعضهم{[17088]} إنْ مخففة ، عباداً نصباً أمثالكم رفعاً ، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ ، و " تَدْعُونَ " صلتها والعائدُ محذوف ، وعباداً حال من ذلك العائد المحذوفِ ، أمثالكُم خبره ، والتقدير : إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين ، فكيف يُعْبَدُون ؟

ويضعفُ أن يكون الموصول اسماً منصوب المحل ؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ .

وحكى أبُو البقاءِ أيضاً قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها .

فصل

في الآية سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنَّها عباد مع أنها جمادات ؟

والجواب : من وجوه :

أحدها : أن المشركينَ لمَّا ادعوا أنَّها تضر وتنفعُ ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم ؛ ولهذا قال : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [ الأعراف : 194 ] .

وقال : " إنَّ الذينَ " ولم يقل : " إنَّ الَّتي " .

وثانيها : أن هذا اللَّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي : أمرهم أن يكونُوا أحياءً عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم ، ولا فضل لهم عليكم ، فَلِمَ جعلتُم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ؟

ثم أبطل أن يكونوا عباداً فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } ثم أكَّد البيان بقوله { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } . ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } لام الأمر على معنى التَّعجيزِ ، ثمَّ لمَّا ظهر لكلِّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنَّها لا تصلح للعبادة ، ونظيره قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّها آلهة ومستحقَّة للعبادة .

وثالثها : قال مقاتل : الخطابُ مع قوم كانوا يعبدون الملائكة .


[17082]:ينظر: الكشاف 2/189، والمحرر الوجيز 2/489، والبحر المحيط 4/440، والدر المصون 3/384.
[17083]:تقدم.
[17084]:ينظر: البحر المحيط 4/440.
[17085]:تقدم.
[17086]:البيت للعجاج ينظر: ملحقات ديوانه (82)، المغني 1/285، شرح المفصل 1/103، الأشموني 1/270، الهمع 1/134، شرح الكافية 2/347، الكتاب 2/142، وطبقات ابن سلام 1/78، وشرح الجمل 1/425، وشرح الرضي 2/347، والمغني 1/285، والفوائد الضيائية 2/353، والخزانة 10/234 والدر المصون 3/385.
[17087]:ينظر: الدر المصون 3/385.
[17088]:ينظر: الكشاف 2/189، والمحرر الوجيز 2/489، والبحر المحيط 4/440.