ثم تحكى السورة بعد ذلك ثلاثة أحداث فعلها الخضر ولكن موسى لم يصبر عليها ، بل اعترض وناقش ، أما الحادث الأول فقد بينه - سبحانه - بقوله : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . . . } . وقوله : { فانطلقا } بيان لما حدث منهما بعد أن استمع كل واحد منهما إلى ما قاله صاحبه .
أى ؛ فانطلق موسى والخضر - عليهما السلام - على ساحل البحر ، ومعهما يوشع بن نون ، ولم يذكر فى الآية لأنه تابع لموسى .
ويرى بعضهم أن موسى - عليه السلام - صرف فتاه بعد أن التقى بالخضر .
أخرج الشيخان عن ابن عباس : أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نَوْلٍ : أى أجر ، .
وقوله : { حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا } بيان لما فعله الخضر بالسفينة .
أى : فانطلقا يبحثان عن سفينة ، فلما وجداها واستقرا فيها ، ما كان من الخضر إلا أن خرقها . قيل : بأن قلع لوحا من ألواحها .
وهنا ما كان من موسى إلا أن قال له على سبيل الاستنكار والتعجب مما فعله : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا . . } . أى : أفعلت ما فعلت لتكون عاقبة الراكبين فيها الغرق والموت بهذه الصورة المؤلمة ؟
{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } ، والإِمْر : الداهية . وأصله كل شئ شديد كبير ، ومنه قولهم : إن القوم قد أَمِرُوا . أى : كثُروا واشتد شأنهم . ويقال : هذا أَمْرُ إِمْرُ ، أى : منكر غريب .
أى : قال موسى للخضر بعد خرقه للسفينة : لقد جئت شيئا عظيما ، وارتكبت أمرا بالغا فى الشناعة . حيث عرضت ركاب السفينة لخطر الغرق .
ويرضى موسى . . وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما :
( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ) . .
سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا ، وهم في وسط اللجة ؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة ! إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر ؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر ?
لقد نسى موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه ، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي ! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد ، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور النظري . فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد . وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا ، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط . ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكرا .
نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية ، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته . منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته . ثم أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر ، هم بالآخر مرة أخرى !
نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة . ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها . ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري . ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } .
يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها ، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة ، فلما ركباها ، خرق العالم السفينة ، قال له موسى : أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول : لقد جئت شيئا عظيما ، وفعلت فعلاً مُنكرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا : أي عجبا ، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها ، كأحوج ما نكون إليها ، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبيّ الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه ، وقد قال لنبيّ الله موسى عليه السلام : فإنِ اتّبَعْتَنِي فَلا تَسألْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول : نُكرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال : منكرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
والإمر : في كلام العرب : الداهية ومنه قول الراجز :
قَدْ لَقِيَ الأقْرَانُ مّنِي نُكْرَا *** دَاهِيَةً دَهْياءَ إدّا إمْرَا
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : أصله : كلّ شيء شديد كثير ، ويقول منه : قيل للقوم : قد أَمِروا : إذا كثروا واشتدّ أمرهم . قال : والمصدر منه : الأَمَر ، والاسم : الإمْر .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِتُغْرِقَ أهْلَها فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين لِتُغْرِقَ أهْلَها بالتاء في لتغرق ، ونصب الأهل ، بمعنى : لتُغرق أنت أيها الرجل أهل هذه السفينة بالخرق الذي خرقت فيها . وقرأه عامة قرّاء الكوفة : «لِيَغْرَقَ » بالياء أهلها بالرفع ، على أن الأهل هم الذين يغرقون .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، متفقتا المعنى وإن اختلفت ألفاظهما ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب .
وإنما قلنا : هما متفقتا المعنى ، لأنه معلوم أن إنكار موسى على العالِم خرق السفينة إنما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الحدث فيها فلا خفاء على أحد معنى ذلك قرىء بالتاء ونصب الأهل ، أو بالياء ورفع الأهل .
وقوله { فانطلقا } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة ، فعرف الخضر فحملا بغير قول إلى مقصد أمه الخضر ، وعرفت { السفينة } بالألف واللام تعريف الجنس لا لعهد عينها ، فلما ركبا عمد الخضر إلى وتد فجعل يضرب في جنب السفينة حتى قلع به ، فيما روي لوحين من ألواحها فذلك هو معنى { خرقها } فلما رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلاً يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة ، فوقفه بقوله { أخرقتها } وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها » بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغَرِّق » بشد الراء وفتح الغين ، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلُها » برفع الأهل ، وإسناد الفعل إليهم و «الإمر » الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه ، ومنه أمر إمْر ابن أبي كبشة{[1]} ومنه أمر القوم إذا كثروا ، وقال مجاهد «الإمر » المنكر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة، فلما ركباها، خرق العالم السفينة، قال له موسى: أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر "لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا "يقول: لقد جئت شيئا عظيما، وفعلت فعلاً مُنكرا...
عن قتادة، قوله: "لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا": أي عجبا... نُكرا...
والإمر في كلام العرب: الداهية...
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: أصله: كلّ شيء شديد كثير، ويقول منه: قيل للقوم: قد أَمِروا: إذا كثروا واشتدّ أمرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها} هذا الكلام يخرج على وجهين.
أحدهما: على الإنكار عليه، أي أخرقتها لتغرق أهلها؟ أو لتعيبها؟
والثاني: على الاستفهام، أي أخرقتها لتغرق أهلها؟ أو لتعيبها؟ أو لماذا؟ وظاهر هذا الحرف استفهام لولا قوله: {لقد جئت شيئا إمرا}. فإن كان على الأول على الإنكار عليه والرد فقوله: {لقد جئت شيئا إمرا} ظاهر، أي جئت شيئا عظيما شديدا. وإن كان على الاستفهام فهو على الإضمار، كأنه قال: أخرقتها لتُغرق أهلها فلئن خرقتها لتغرق أهلها فلقد جئت شيئا إمرا... فإن قيل: كيف قال له موسى {أخرقتها لتغرق أهلها} وبعد ذلك لم يعلم أن ذلك الخرق مُغرق أهلها، وقد يجوز أن يكون غير مغرق. قيل: إنما أخبر عما يؤول الأمر في العاقبة، والظاهر من الخرق أن يغرق في آخر الأمر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... {قال} له موسى {أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهلَها} وإن كان في غرقِها غَرَقُ جميعِهم لكنه أَشفَق على القوم أكثرَ من إشفاقه على نفسه لأنها عادةُ الأنبياء. ثم قال بعد تعجُّبه وإكبارِه {لقد جئتَ شيئاً إمْراً} فأَكْبَرَ ثم أَنْكَرَ... الإمْر: الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة... وهو مأخوذٌ من الإِمْر وهو الفاسد الذي يَحتاج إلى الصلاح، ومنه رَجُلٌ إِمْرٌ إذا كان ضعيفَ الرأي لأنه يحتاج أن يُؤمَر حتى يَقْوَى رأيُه، ومنه أَمِرَ القومُ إذا أَكْثَرُوا لأنهم يَحتاجون إلى مَن يَأمُرهم ويَنهاهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
...وقوله: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} أي لتؤديَ عاقبةُ هذا الأمرِ إلى غَرَقِ أهلِها؛ لأنه عَلِمَ أنه لم يَكن قَصَدَ إغراقَ أهلِ السفينة...
اِعلمْ أن موسى وذلك العالِمَ لَمّا تشارَطا على الشرط المذكور وسارا فانتهَيا إلى موضعٍ احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركِباها وأَقْدَمَ ذلك العالمُ على خرْق السفينة، وأقول لعله أقدمَ على خرق جدارِ السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخَرْقِ مَعِيبةً ظاهرةَ العَيْبِ فلا يَتسارع الغرقُ إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له: {أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}... موسى عليه السلام لمّا شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نَسِيَ الشرطَ المتقدِّم فلهذا المعنى قال ما قال...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فانطلَقا حتى إذا رَكِبا في السفينة خَرَقَها "فيه مسألتان:..
الأولى- في صحيح مسلم والبخاري: (فانطلَقا يمشيان على ساحل البحر، فمَرَّتْ سفينةٌ فكَلَّموهم أن يَحمِلوهم، فعَرفوا الخضر فحَمَلوه بغيرِ نَوْلٍ،...
فلَمّا رَكِبا في السفينة لم يُفْجَأْ [موسى] إلا والخَضِرُ قد قَلَع منها لَوْحاً من ألواح السفينة بالقَدُوم، فقال له موسى: قومٌ حَمَلونا بغير نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سفينتهم فخَرَقْتَها لِتُغرِق أهلَها "لقد جِئتَ شيئاً إِمْراً. قال إنّكَ لن تستطيعَ معي صَبْراً قال لا تُؤاخِذْنِي بما نَسِيتُ ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً "قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكانت الأُولَى من موسى نِسْياناً) قال: (وجاء عصفورٌ فوقع على حَرْف السفينة فنَقَرَ في البحر، فقال له الخضر: ما عِلمي وعِلمُك مِن عِلم اللهِ إلا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العصفورُ من هذا البحر)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تشارطا وتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى: {فانطلقا} أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا {حتى إذا ركبا في السفينة} وأجاب الشرط بقوله تعالى: {خرقها} وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن، ولم يقرن "خرق "بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه؛ ثم استأنف قوله تعالى: {قال} أي موسى عليه السلام، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله -وهو الإله العظيم- من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار، كما فعل عند قتل الغلام، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأن المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً، ففي الأولى نسي الشرط، وفي الثانية نسي -لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً- أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه.
{أخرقتها} وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: {لتغرق أهلها} والله! {لقد جئت شيئاً إمراً} أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا، وهم في وسط اللجة؛ ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة! إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر؛ فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر؟ لقد نسي موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور النظري. فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد. وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط. ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكرا. نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته. منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته. ثم أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر، هم بالآخر مرة أخرى! نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة. ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها. ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري. ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذقتها وجربتها. ومن هنا اندفع موسى مستنكرا: (قال: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي الكلام إيجازٌ دَلَّ عليه قولُه: {إذا رَكِبا في السفينة}. أصلُ الكلامِ: حتى استأجَرا سفينةً فرَكِباها فلَمّا رَكِبا في السفينة خَرَقها...
وإذا} ظرفٌ للزمان الماضي هنا، وليست متضمِّنةً معنى الشرط. وهذا التوقيت يُؤْذِن بأخذه في خرق السفينة حينَ ركوبِهما. وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجْل خَرْقِها لأن الشيء المقصود يبادِر به قاصدُه لأنه يكون قد دَبَّره وارْتآه من قَبْلُ...
وبُنِيَ نظْمُ الكلامِ على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقَع بمجرد الركوب في السفينة، لأن في تقديم الظرف اهتماماً به، فيدلّ على أن وقت الركوبِ مقصودٌ لإيقاع الفعل فيه...
وضُمِّنَ الرُّكوبُ معنى الدخول لأنه ركوبٌ مجازيٌّ، فلذلك عُدِّيَ بحرف (في) الظرفية نظيرَ قولِه تعالى: {وقال ارْكَبوا فيها} [هود: 41] دونَ نحوِ قولِه: {والخَيْلَ والبِغالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبوها} [النحل: 8]... والاستفهام في {أَخَرَقْتَها} للإنكار. ومَحَلُّ الإنكار هو العلة بقوله: {لِتُغْرِقَ أهلَها}، لأن العلة ملازمةٌ للفعل المستفهَم عنه. ولذلك تَوَجَّهَ أن يُغَيِّر موسى عليه السلام هذا المنكَرَ في ظاهر الأمر، وتأكيدُ إنكارِه بقوله: {لقد جِئتَ شيئاً إِمْراً}...
والإِمْرُ... فسَّره الراغب بالمنكر، لأن المقام دالٌّ على شيء ضارّ. ومَقامُ الأنبياء في تغيير المنكر مَقامُ شدّةٍ وصراحةٍ. ولم يَجعله نُكُراً كما في الآية بعدَها لأن العَمل الذي عمِله الخضرُ ذريعةٌ للغرق ولم يقع الغرقُ بالفعل...
كأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يعلمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر... ونلحظ هنا أن موسى عليه السلام لم يكتف بالاستفهام: {أخرقتها لتغرق أهلها}: بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وابتدأت التجربة، وبدأ الدرس الأول... {فَانْطَلَقَا} في الطريق من أجل البحث عن موقع الفكرة على الطبيعة وفي الواقع، لأن الدرس لم يكن درساً نظرياً، ليجلسا على الأرض، وليتحدثا عن القضايا المطروحة في الساحة الفكرية والعملية، وليحلِّلا تفاصيلها ويدرسا المواقف الحاسمة على أساس ذلك، بل كان درساً عملياً يتحرك فيه هذا العالم الصالح في الساحة الواقعية، التي قد يوحي الحدث فيها بشيء، ولكن العمق الداخلي له يوحي بشيء آخر، ليترك الفكرة تتفاعل في داخل موسى (عليه السلام)، من خلال حالة الاندهاش التي يثيرها الموقف، فتحفر في عقله ووجدانه وشعوره، ليصل إلى النتيجة بنفسه، أو من خلال توجيه العالم له، بعد أن تترك الفكرة آثارها في عمق شخصيته. ولهذا انطلقا في رحلة البحث عن المعرفة. وربما تحدثا بحديث عابر، وربما كانا يسيران صامتين يفكر أحدهما وهو موسى (عليه السلام) في المجهول الذي يُقبل عليه، ويفكر الآخر وهو العالم في التجربة التي يريد أن يحركها في الدرس الأول.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المعلم الإِلهي والأفعال المنكرة!! نعم، لقد ذهب موسى وصاحبهُ وركبا السفينة: (فانطلقا حتى إِذا ركبا في السفينة). من الآن فصاعداً نرى القرآن يستخدم ضمير المثنّى في جميع الموارد، والضمير إِشارة إلى موسى والعالم الرّباني، وهذه إِشارة إلى انتهاء مهمّة صاحب موسى (عليه السلام) (يوشع) ورجوعه، أو أنَّهُ لم يكن معنياً بالحوادث بالرغم مِن أنَّهُ قد حضرها جميعاً. إِلاَّ أنَّ الاحتمال الأوّل هو الأقوى. عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها: «خرقها». «خرق» كما يقول الراغب في المفردات: الخرق، قطع الشيء على سبيل الإفساد بلا تدبّر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالِم على هذا المنوال. وبحكم كَوْن موسى (عليه السلام) نبيّاً إِلهياً كبيراً فقد كان مِن جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومِن جانب آخر كان وجدانه الإِنساني يضغط عليه ولا يدعهُ يسكت أمام أعمال الرجل العالِم التي يبدو ظاهرها سيئاً قبيحاً، لذا فقد نسيَ العهد الذي قطعهُ للخضر (العالم) فاعترض وقال: (قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إِمراً). لا ريب إِنَّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إِغراق مَن في السفينة، ولكنَّ النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق مَن في السفينة، لذا فقد استخدم موسى (عليه السلام) (اللام الغائية) لبيان الهدف. مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيراً، عندما نقول لهُ: أتريد أن تقتل نفسك؟! بالطبع مِثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام، إِلاَّ أنَّ نتيجة عمله قد تكون هكذا. «إِمر» على وزن «شمر» وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية. وحقاً، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالِم عجيباً وسيئاً للغاية، فهل هُناك عمل أخطر مِن أن يثقب شخص سفينة تحمل عدداً مِن المسافرين!