ولما كان هذا القول قد جاء في غير أوانه ، وأن هذا الإِيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت ، فقد رد الله - تعالى - على فرعون بقوله - سبحانه - { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } .
أى : آلآن تدعى الإِيمان حين يئست من الحياة ، وأيقنت بالموت ، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين في الأرض ، المصرين على تكذيب الحق الذي جاءكم به رسولنا موسى - عليه السلام - والظرف " آلآن " متعلق بمحذوف متأخر ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار .
وقوله : { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } جملة حالية من فاعل الفعل المقدر ، أى : آلآن تدعى الإِيمان والحال أنك عصيت قبل وكنت من المفسدين .
قال الإِمام ابن كثير : " وهذا الذي حكاه الله - تعالى - عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك . من أسرار الغيب التي أعلم الله - تعالى - بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،
ولهذا قال الإِمام أحمد بن حنبل - رحمه الله .
حدثنا سليما بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن على بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لما قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، قال جبريل لى يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر - أي طينا أسود من طين البحر - فدسسته في فمه مخافة أن تناله الرحمة " .
ورواه الترمذى ، وابن جرير ، وابن أبى حاتم في تفاسيرهم ، من حديث ، حماد بن سلمة وقال الترمذي : حديث حسن .
القول في تأويل قوله تعالى : { آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره معرّفا فرعون قبح صنيعه أيام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته ، بتماديه في طغيانه ومعصيته ربه حين فزع إليه في حال حلول سخطه به ونزول عقابه ، مستجيرا به من عذابه الواقع به لما ناداه وقد علته أمواج البحر وغشيته كرب الموت : آمَنْتُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ له ، المنقادين بالذلة له ، المعترفين بالعبودية : الاَن تقرّ لله بالعبودية ، وتستسلم له بالذلة ، وتخلص له الألوهة ، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك وكنت من المفسدين في الأرض الصّادّين عن سبيله ؟ فهلاّ وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الاَن مقرّ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره معرّفا فرعون قبح صنيعه أيام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه ومعصيته ربه حين فزع إليه في حال حلول سخطه به ونزول عقابه، مستجيرا به من عذابه الواقع به لما ناداه وقد علته أمواج البحر وغشيته كرب الموت:"آمَنْتُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ" له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية: "آلآن "تقرّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك وكنت من المفسدين في الأرض الصّادّين عن سبيله؟ فهلاّ وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقرّ؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى الآية حكاية ما قيل لفرعون حين قال "آمنت أنه لا اله لا الذي آمنت به بنوا اسرائيل "بانك تقول هذا في هذه الساعة "وقد عصيت قبل" هذا "وكنت من المفسدين" في الأرض بقتل المؤمنين وادعاء الإلهية، وغير ذلك من أنواع الكفر!.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَبْعَدَ طولِ الإمهال، والإصرار على ذميم الأفعال، والرَّكْضِ في ميدان الاغترار، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجَبْتَ أن تُرَدَّ في وجهك، فلا لِعُذْرِك قَبُولٌ، ولا لَكَ إلى ما ترومه وصولٌ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...هذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه، وهذا اللفظ يحتمل أن بكون مسموعاً لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام: {آلآن} أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه {وقد} أي والحال أنك قد {عصيت} أي بالكفر {قبل} أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر! {وكنت} أي كوناً جبلياً {من المفسدين} أي العريقين في الفساد والإفساد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين} أي أتسلم الآن، أو تدعي الإسلام وإذعان الطاعة والانقياد حيث لا محل له ولا إمكان بما حال دونه من الهلاك، وقد عصيت قبله، وكنت من المفسدين في الأرض، الظالمين للعباد، والمراد أن دعوى الإسلام الآن باطلة، والإيمان بدون الإسلام مع إمكانه لا يقبل، فكيف يقبل وقد صار اضطرارا لا معنى لقبوله؛ لأنه انفعال لا فعل لصاحبه...
وقد تقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في هذه السورة، وهو قوله تعالى في المكذبين بوعد الله تعالى ووعيده بما كان يحملهم على استعجال عذابه: {أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون} [يونس: 51]، وسيأتي بعد بضع آيات منها أن الإيمان لا ينفع عند وقوع عذاب الاستئصال الذي هو نهاية أجل القوم، كما أنه لا ينفع حتى إذا حضر أحدهم الموت الشخص، كما تقدم في قوله تعالى: {ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ولاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]، ومن البديهي أن التوبة من الكفر والمعصية إنما تنفع بالرجوع إلى الطاعة. على أن اليائس من الشيء بالفعل لا يعقل أن يكون صادقا في ادعائه إياه أو طلبه له بالقول. ولعل فرعون أراد بقوله حينئذ أنه كان يرجو بهذا أن ينجيه الله تعالى كما نجاه وقومه من كل نازلة من عذاب الله حلت به وبقومه؛ إذ كان يقول لموسى {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} [الأعراف: 134}، ولكن تلك النوازل إنما كانت لأجل إرسال بني إسرائيل مع موسى فهي غايتها، ولم تكن عقابا على الإصرار على كفر الجحود والعناد الذي هو شر أنواع الكفر وأدلها على خبث طوية صاحبه، كذا العقاب الأخير بعد نجاة بني إسرائيل منه رغم أنفه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره: قال الله. وهو جواب لقوله: {آمنت} [يونس: 90] لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافاً لله بالربوبية، فكأنه وجه إليه كلاماً. فأجابه الله بكلام.
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييساً له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال: {آمنت} [يونس: 90] إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق. ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه {فاليوم ننجيك ببدنك} كما سيأتي.
والاستفهام في {ألآن} إنكاري. والآن: ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله: {آمنتُ} [يونس: 90] تقديره: الآن تؤمن، أي هذا الوقت. ويقدر الفعل مؤخراً، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف.
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتاً ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى: لا إيمان الآن.
والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة. وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت. وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار} [النساء: 18].
و (الآن) اسم ظرف للزمان الحاضر... وقد تقدم عند قوله تعالى: {الآن خفَّف الله عنكم} في سورة [الأنفال: 66].
وجملة: وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين} في موضع الحال من معمول (تؤمن) المحذوف، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكاراً أن صاحبه كان عاصياً لله ومفسداً للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسداً في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر.
وصيغة: {كنتَ من المفسدين} أبلغ في الوصف بالإفساد من: وكنتَ مُفسداً، كما تقدم آنفاً، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين أفسدوا حياتهم بالكفر والعصيان، وأفسدوا حياة الناس بالظلم والعدوان.