ثم بين - سبحانه - الفريق الأول فقال : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أى : من كفر من الناس ، فعاقبه كفره واقعة عليه لا على غيره ، وسيتحمل وحده ما يترتب على ذلك من عذاب مهين .
قال صاحب الكشاف : قوله { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } كلمة جامعة لما لا غاية وارءه من المضار ، لأن من كان ضاره كفره ، فقد أحاطت به كل مضرة .
ثم بين - سبحانه - الفريق الثانى فقال : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أى : ومن عمل فى دنياه عملاً صالحاً ، فإنه بسبب هذا العمل يكون قد مهد وسوى لنفسه مكاناً مريحاً يستقر فيه فى الآخرة .
والمهاد : الفراش . ومنه مهاد الصبى أى فراشه . ويقال مهدت الفراش مهدا ، أى : بسطته ووطأته . ومهدت الأمور . أى : سويتها وأصلحتها .
فالجملة الكريمة تصوير بديع للثمار الطيبة التى تترتب على العمل الصالح فى الدنيا ، حتى لكأن من يعمل هذا العمل ، يعد لنفسه فى الآخرة مكاناً مبعداً ، ومضجعاً هنيئا ، ينزل فيه وهو فى أعلى درجات الراحة والنعيم :
قال ابن جرير : قوله - تعالى - { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أى : فلأنفسهم يستعدون ، ويسوون المضجع ، ليسلموا من عقاب ربهم ، وينجوا من عذابه ، كما قال الشاعر :
أمهد لنفسك ، حان السقْم والتلف . . . ولا تضيعن نفسا ما لها خلف
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من كفر بالله فعليه ، أو زاد كفره ، وآثام جحوده نِعَمَ ربه ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا يقول : ومن أطاع الله ، فعمل بما أمره به في الدنيا ، وانتهى عما نهاه عنه فيها فَلاِءَنْفُسِهِمْ يَمْهَدونَ يقول : فلأنفسهم يستعدون ، ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم ، وينجوا من عذابه ، كما قال الشاعر :
امْهَدْ لنَفْسِكَ حانَ السّقْمُ والتّلَفُ *** وَلا تُضِيعَنّ نَفْسا ما لَهَا خَلَفُ
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَلاِءَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال : يسوّون المضاجع .
حدثنا ابن المثنى والحسين بن يزيد الطحان وابن وكيع وأبو عبد الرحمن العلائي ، قالوا : حدثنا يحيى بن سليم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَلاِءَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال : في القبر .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلاِءَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال : للقبر .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا يقول : في قوله فَلاِءَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال : في القبر .
ثم عبر عن «الكفر » ب «عليه » وهي تعطي الثقل والمشقة وعن العمل الصالح باللام التي هي كلام الملك{[9324]} ، و { يمهدون } معناه يوطئون ويهيئون وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب ، وقال مجاهد : هذا التمهيد هو للقبر .
هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي { فأقم وجهك للدّين القيم } [ الروم : 43 ] ، إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فبين ذلك بأنهم لا يَضرون بكفرهم إلا أنفسهم ، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله { فعليه كفره } فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه ، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين ، ولهذا ابتدىء بذكر حال من كَفر ثم ذُكر بعدَه { من عمل صالحاً } . واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضَرّاً على الكافر ، لأن ( عَلى ) تقتضي ذلك في مثل هذا المقام ، كما اقتضى اللام في قوله { فلأنفسهم يمهدون } أن لِمجرورها نفعاً وغنماً ، ومنه قوله تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] . وقال توبة بن الحُمَيِّر :
وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تُقاها أو عليها فجورها
وأفرد ضمير { كفره } رعياً للفظ { مَن } . وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضارّ في الكفر على الكافر وأنه لا يَضُر غيره ، مع تمام الإيجاز ، وهو وعيد لأنه في معنى : من كفر فجزاؤه عقاب الله ، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة ( على ) من قوله { فعليه كفره } وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحاً بقوله { ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله } .
وأما قوله { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } فهو بيان أيضاً لما في جملة { فأقم وجهك للدّين القيّم } [ الروم : 43 ] من الأمر بملازمة التحلّي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب بالترغيب فهو كالتكملة للبيان . وإنما قوبل { من كَفر } ب { من عَمِل صَالِحاً } ولم يقابل ب ( مَن ءامن ) للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين . فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه ، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتّكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة . وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يَقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله تعالى قبل هذه الآية : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة فأولئك في العذاب مُحضَرون } [ الروم : 14 16 ] حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان .
وتقديم { فلأنفسهم } على { يمهدون } للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص .
و { يمهدون } يجعلون مِهاداً ، والمهاد : الفراش . مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطىء فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه .
وتقديم { لأنفسهم } على { يمهدون } للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة .
وروعي في جمع ضمير { يمهدون } معنى { مَن } دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.