محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ} (90)

[ 90 ] { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ( 90 ) }

{ وأولئك } إشارة إلى الأنبياء المذكورين { الذين هدى الله } أي : إلى الصراط المستقيم { فبهداهم اقتده } أي : بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده ، والأخلاق الحميدة ، والأفعال المرضية ، والصفات الرفيعة ، اعمل .

تنبيهات

الأول- استدل بهذه الآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد ناسخ .

الثاني- استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في ( ص ) ، لأن داود عليه السلام سجدها ، رواه البخاري وغيره- ولفظ البخاري{[3559]} : عن العوام ، قال : " سألت مجاهدا عن سجدة ( ص ) ، فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ : { ومن ذريته داود وسليمان . . . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فكان داود من أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

الثالث- قال الرازي : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وتقريره : أن بينا أن خصال الكمال ، وصفة الشرف ، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ، ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين ، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة ، والمعجزات الظاهرة ، وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس كانوا اصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس كان صاحب التضرع ، فثبت أنه تعالى لما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف . ثم إنه تعالى لما ذكر الكل ، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به ، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال ، وثبت أنه أفضلهم . وهو استنباط حسن .

الرابع- { اقتده } يقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل ، وهي على هذا هاء السكت . ومنهم من يثبتها في الوصل أيضا لشبهها بهاء الإضمار . ومنهم من يكسرها وفيه وجهان : أحدهما هي هاء السكت أيضا ، شبهت بهاء الضمير ، وليس بشيء . والثاني هي هاء الضمير والمضمر المصدر أي : اقتد الاقتداء . ومثله{[3560]} :

هذا سراقة للقرآن يدرسه *** والمرء عند الرشا ، إن يلقها ذيب

/ ( فالفاء ) ضمير ( الدرس ) لا مفعول ، لأن ( يدرس ) قد تعدى إلى ( القرآن ) وقيل : من سكن الهاء جعلها هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف- أفاده أبو البقاء- .

وأما قول الواحدي : الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف ، فإن الهاء ثابتة في الخط ، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل ، فأثبتوا – فقد قال الخفاجي : إنه مما لا ينبغي ذكره ، لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط ، فمن قاله فقد وهم .

{ قل لا أسألكم عليه أجرا } أي : على القرآن أو التبليغ ، فإن مساق الكلام يدل عليهما ، وإن لم يجر ذكرهما ، { إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي : عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى .

تنبيهان :

الأول- فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى جميع الخلق ، من الجن والإنس . وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق .

الثاني- قال الخفاجي : قيل : الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام . قال : وللفقهاء فيه كلام . انتهى .

/ وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال : في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز اخذ الأجرة على تعليم العلوم ، لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة . انتهى .

أقول : إن الآية دلت على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجرا ، كي لا يثقل عليهم الامتثال . وأما استفادة الحل والتحريم منها ، ففيه خفاء . والقائل بالأول يقول : المعنى لا أسألكم جعلا تعففا . أي : وإن حل لي أخذه . وبالثاني : لا أسألكم عليه أجرا لأني حظرت من ذلك .

قال ابن القيم : أما الهدية للمفتي ، ففيها تفصيل : فإن كانت بغير سبب الفتوى ، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت ، فلا بأس بقبولها ، والأولى أن يكافأ عليها . وإن كانت بسبب الفتوى ، فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له ، لم يجز له قبول هديته ، لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء . وأما أخذ الرزق من بيت المال ، فإن كان محتاجا إليه ، جاز له ذلك . وإن كان غنيا عنه ، ففيه وجهان : وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة ، وعامل اليتيم . فمن ألحقه بعامل الزكاة قال : النفع فيه عام ، فله الأخذ . ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ . وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي ، بل القاضي أولى بالمنع . وأما أخذ الأجرة فلا يجوز ، لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله ، فلا يجوز المعاوضة عليه ، كما لو قال : لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة . أو سئل عن حلال أو حرام ؟ فقال للسائل : لا أجيبك عنه إلا بأجرة ، فهذا حرام قطعا ، ويلزمه رد العوض ، ولا يملكه . انتهى .

وفي حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقرؤوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به ، - أخرجه الإمام أحمد{[3561]} رجال الصحيح . وأخرجه أيضا البزار وله شواهد- .

/ وأخرج أحمد{[3562]} والترمذي- وحسنه- عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به ، فإنه سيجيء قوم يقرؤون القرآن يسألون الناس به " .

وأخرج ابن ماجة{[3563]} والبيهقي عن أبي بن كعب قال : " علمت رجلا القرآن ، فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخذتها أخذت قوسا من نار " .

وهناك أحاديث أخر ، ومنها استدل عل حظر أخذ الأجرة على التعليم .

وأما أخذ الأجرة على التلاوة ، ففي ( الصحيحين ) {[3564]} عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا ، كتاب الله ، أصبتم اقتسموا ، واضربوا لي معكم سهما " .

/ قال العلامة الشوكاني : حديث ( أحق ما أخذتم عليه أجرا ) عام يصدق على التعليم ، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك ، وأخذ الأجرة على الرقية ، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء ، لأجل كونه قارئا ، ونحو ذلك . فيخص من هذا العموم تعليم المكلف ، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم . وبعض أفراد العام فيه ، أدلة خاصة تدل على جوازه ، كما دل العام على ذلك . فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية ، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها . قال : هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام ، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن . أي : لأنه يصار إليه عند تعذر الجمع ، وقد أمكن ، فكان الحق- والله الموفق- .


[3559]:- أخرجه البخاري في: 65- كتاب التفسير، 38- سورة (ص)، 1- حدثنا محمد بن بشار.
[3560]:- قال صاحب الخزانة (ج 2 ص 2، طبعة السلفية) ما نصه: هو من شواهد سيبويه. على أن الضمير في (يدرسنه) راجع إلى مضمون يدرس. أي يدرس الدرس فيكون راجعا للمصدر المدلول عليه بالفعل. وإنما لم يجز عوده للقرآن، لئلا يلزم تعدي العامل إلى الضمير وظاهره معا. واستشهد به أبو حيان في (شرح التسهيل) على أن ضمير المصدر قد يجيء مرادا به التأكيد، وأن ذلك لا يختص بالمصدر الظاهر على الصحيح. وأورده سيبويه على أن تقديره عنده: والمرء عند الرشا ذئب إذ يلقها. وتقديره عند المبرد: إن يلقها فهو ذئب. وهذا من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يقف على قائلها أحد. قال الأعلم: ملجأ هذا الشاعر رجلا من القراء، نسب إليه الرياء وقبول الرشا والحرص عليها.
[3561]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 428 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي).
[3562]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 432 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[3563]:- أخرجه ابن ماجة في: 12- كتاب النجارات، 8- باب الأجر على تعليم القرآن، حديث رقم 2158 (طبعتنا).
[3564]:- هذا الحديث ليس عن عبد الله بن مسعود وإنما هو عن عبد الله بن عباس. وليس في الصحيحين بل هو من الأحاديث التي انفرد بها البخاري عن مسلم. أخرجه البخاري في: 76- كتاب الطب، 34- باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، حديث رقم 2260 ونصه: عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ (أو سليم) فعرض لهم رجل من أهل الماء. فقال: هل لديكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا (أو سليما). فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء. فبرأ. = = فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا؟ ! حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله ! أخذ على كتاب الله أجرا !!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". أما الحديث الذي فيه (اضربوا لي بسهم) فهو حقيقة في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري في قصة مثل قصة الحيدث السابق. فقد أخرج البخاري في: 37- كتاب الإجارة، 16- باب ما يعطى في الرقية. وفي: 66- كتاب فضائل القرآن؟، 9- باب فاتحة الكتاب. وفي: 76- كتاب الطب، 33- باب الرقى بفاتحة الكتاب. وفي: 76-ب كتاب الطب، 39- باب النفث في الرقية. والحديث رقم 1132. وأخرجه مسلم في: 39- كتاب السلام، حديث 65 و66 (طبعتنا).