محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (74)

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزوا ولعبا إنكارا إبراهيم عليه الصلاة والسلام- الذي يزعمون أنهم على دينه ، ويفتخرون به- على أبيه في شركه بقوله سبحانه :

[ 74 ] { وإذ قال إبراهيم لأبيه أزار أتتخذ أصناما } أي : صورا مصنوعة ، { آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } ؛ باعتقاد إلهيتها ، أو اتصافها بصفاته ، أو استحقاقها للعبادة ، لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات . وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته ، وهي عاجزة عن النفع والضر ، خالية عن الحياة والسمع والبصر ، والعبادة غاية التذلل ، فلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة ، وإنما يستحقها من كان في غاية العلو- أفاده المهايمي- .

تنبيهات :

الأول- قرئ { آزر } بالنصب ، عطف بيان ، لقوله : ( لأبيه ) وبالضم على النداء .

الثاني- الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا ، وأن آزر عم إبراهيم ، لا أبوه ، على ما بسطه الرازي هنا ، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، مثله لا يجزم به من غير نقل .

/ الثالث- قال بعض مفسري الزيدية : في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية : إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافرا . لأنه إذا جاز نبي ، أبوه وزوجته كافران ، فالإمام أولى .

اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالا على فساد قول عبدة الأصنام ، بإنكاره اتخاذها آلهة ، وهي ما هي في عجزها . وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله تعالى : { واذكر في الكتاب إبراهيم ، إنه كان صديقا نبيا ، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ، يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصيا ، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، لئن لم تنته لأرجمنك ، واهجرني مليا . . . } {[3517]} الآيات .

قال ابن كثير : ثبت في " الصحيح " {[3518]} عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة . فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب  ! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال : يا إبراهيم  ! انظر ما تحت رجليك ، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " .

الرابع- قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين ، لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب ، فهو أهم . ولهذا قال تعالى : { وأنذر عشيرتك/ الأقربين }{[3519]} ، وقال تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا }{[3520]} . وقال صلى الله علي وسلم{[3521]} : " إبدأ بنفسك ثم بمن تعول " . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعلي وخديجة وزيد ، وكانوا معه في الدار ، فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي . وبدأ إبراهيم بأبيه ، ثم بقومه . وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله . ليس من العقوق ، كالهجرة – هكذا في " التهذيب " انتهى .


[3517]:- [19/ مريم/ 41-46].
[3518]:- أخرجه البخاري في: 60- كتاب الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}، حديث رقم 1586.
[3519]:- [26/ الشعراء/ 214].
[3520]:- [66/ التحريم/ 6] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)}.
[3521]:- هذا الحديث (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ملفق من حديثين: الأول (ابدأ بنفسك ثم تصدق عليها) أخرجه مسلم في؛ 12- كتاب الزكاة، حديث 41 (طبعتنا) ونصه: عن جابر قال: أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألك مال غيره"؟ فقال: لا. فقال: "من يشتريه مني"؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم. فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدفعها إليه، ثم قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها. فإن فضل شيء فلأهلك. فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك. فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا". يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك. والحديث الثاني (ابدأ بمن تعول) وأخرجه البخاري في: 24- كتاب الزكاة، 18- باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، حديث 763 ونصه: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وخير الصدقة عن ظهر غنى. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله".