في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ} (12)

ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءاً لله وجزءاً لغير الله ، وما لهذا خلقها الله ؛ إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس ، يركبونها كما يركبون الفلك ، ويشكرون الله على تسخيرهما ، ويقابلون نعمته بما تستحقها :

( والذي خلق الأزواج كلها ، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون . لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) . .

والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية . فكل الأحياء أزواج ، وحتى الخلية الواحدة الأولى تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها . بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب ، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن .

وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة ؛ والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان :

( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) . . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ} (12)

و : { الأزواج } الأنواع من كل شيء ، و { من } في قوله : { من الفلك } للتبعيض ، وذلك أنه لا يركب من الأنعام غير الإبل ، وتدخل الخيل والبغال والحمير فيما يركب بالمعنى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ} (12)

هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش ، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة . وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفاً .

والأزواج : جمع زوج ، وهو كل ما يصير به الواحد ثانياً ، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع . وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان ، ومنه { ثمانية أزواج } في سورة الأنعام ( 143 ) ، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] . وكلا الاطلاقين يصح أن يراد هنا ، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها .

ولما كان المتبادرُ من الأزواج بادىء النظر أزواجَ الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برّاً وأدمج معها وسائل السفر بحراً . فقال : { وجعل لكم من الفُلك والأنعام ما تركبون } فالمراد ب { ما تركبون } بالنسبة إلى الأنعام هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى : { وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [ يس : 41 ، 42 ] وقد قالوا : الإبلُ سفائن البر .

وجيء بفعل { جَعل } مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة ، والأنعام قد عُرف أنها مخلوقة لشمول قوله : { خلَق الأزواج } إياها . ومعنى جَعل الله الفلكَ والأنعامَ مركوبة : أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يَروض الأنعام ويركبها .

وقُدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكرُ نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة . فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوباً عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقباً للنفس لمناسبة جديدة ، وهذا كقول امرىء القيس :

كأنيَ لم أركَبْ جواداً للــذةٍ *** ولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال

ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ *** لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال

إذ أعقب ذكر رُكوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة ، ولم يعقبه بقوله : ولم أقل لخيلي كري كرة ، لاختلاف حال الركوبين : ركوب اللّذة وركوب الحَرب .

والركوب حقيقته : اعتلاء الدابّة للسير ، وأطلق على الحصول في الفُلك لتشبيههم الفُلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى ب ( في ) للفرق بين الأصيل واللاحق ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها } في سورة هود ( 41 ) .

و { من الفلك والأنعام } بيان لإبهام { ما } الموصولة في قوله : { ما تركبون } . وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب ، وحذفُ مثله كثير في الكلام . وإذ قد كان مفعول { تركبون } هنا مبيَّناً بالفُلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر ب ( في ) فغلِّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد ، وحُذف العائد بناء على ذلك التغليب .

واستعمال فعل { تركبون } هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه .