ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد ، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان :
( ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا ، وجنات ألفافا ? ) . .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض ، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد ، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات ، مما يجعل إيقاعها في الحس حادا ثقيلا نفاذا ، كأنه المطارق المتوالية ، بلا فتور ولا انقطاع ! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين - وهي في اللغة تفيد التقرير - صيغة مقصودة هنا ، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين ، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير ، والقدرة على الإنشاء والإعادة ، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال :
( ألم نجعل الأرض مهادا ، والجبال أوتادا ? ) . .
والمهاد : الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي ؛ وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره ، كبرت هذه الحقيقة في نفسه ؛ وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم ، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم ؛ وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها ؛ وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .
وجعل الأرض مهادا للحياة - وللحياة الإنسانية بوجه خاص - شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا ؛ ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة ، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
ثم وقفهم تعالى على آياته وغرائب مخلوقاته وقدرته التي يوجب النظر فيها الإقرار بالبعث والإيمان بالله تعالى . و «المهاد » : الفراش الممهد الوطيء وكذلك الأرض لبنيتها{[11562]} ، وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهداً » ، والمعنى نحو الأول .
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامِهم ، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه ، جاء هذا الاستئناف بياناً لإجمال قوله : { عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 2 ، 3 ] .
وسيجيء بعده تكملته بقوله : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق ، وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البِلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها .
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف { وخلقناكم أزواجاً } [ النبأ : 8 ] عليه .
والاستفهام في { ألم نجعل } تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يَكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف ( لم ) ، وذلك النفي كالإعذار للمقرَّر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهاداً لا بنفيه فحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير .
فالمعنى : أجعلنا الأرض مهاداً ولذلك سيعطف عليه { وخلقناكم أزواجاً } وتقدم عند قوله تعالى : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 33 ) . ولا يسعهم إلا الإِقرار به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللَّه } [ لقمان : 25 ] ، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( أي الثاني ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ غافر : 57 ] .
وجَعْلُ الأرض : خَلْقُهَا على تلك الحالة لأن كونها مهاداً أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومِن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإِنسان لا يعلمه إلا الله .
والمعنى : أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ .
والتعبير ب { نجعل } دون : نخلق ، لأن كونها مهاداً حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالباً أو إلى الوصف المقوّم للذات نحو : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] .
والمِهاد : بكسر الميم الفراش الممهد المُوطّأُ ؛ وَزِنَةُ الفِعَال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة . وفي « القاموس » : أن المهاد يرادف المهد الذي يجعل للصبي . وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جُعل سطحها ميسراً للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي ، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس ، فهو استدلال يتضمن امتناناً وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بِلاها .
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعَوُوا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى .
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث ، أي بعث أهل القبور .
وجعل الأرض مهاداً يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعدُ عند التعرض لخلق السماوات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.