في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

35

( يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة ، كل معالم هذا الدين ، وكل مقومات هذه العقيدة . كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا عنيفا . .

( يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ) . .

إنه يتخذ منهما صاحبين ، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة ، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة . وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة ، إنما يعرضها قضية موضوعية :

( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ) . .

وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا . . إن الفطرة تعرف لها إلها واحد ففيم إذن تعدد الأرباب ؟ . . إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار . ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعا لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس . وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد ، وأنه هو القاهر ، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره ، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا . . إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر هذا الكون ويسيره . ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه ، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره !

والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب - كالشأن في كل الأرباب إلا الله - وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم ، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم . . فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته ؛ أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة ، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية ! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها ، ومن حرصها على ذواتها وبقائها ، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته ، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أومن بعيد ؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثى ء نفختها الخادعة !

والله الواحد القهار في غنى عن العالمين ؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة - وفق منهجه - فيعد لهم هذا كله عبادة . وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم ، لإصلاح حياتهم وواقعهم . . وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين ! ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ) . . ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

وصفه لهما ب { صاحبي السجن } هو : إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه - كما قال : { أصحاب الجنة }{[6685]} ، و { أصحاب الجحيم }{[6686]} ونحو هذا - وإما أن يريد صحبتهما له في السجن ، فأضافهما إلى السجن بذلك ، كأنه قال : يا صاحبيَّ في السجن ، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم ؛ وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها «بالتفرق »{[6687]} ، ووصف الله تعالى ب «الوحدة » و «القهر » تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته ، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها ، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ، ثم كذلك أبداً حتى يصل إلى الحق ، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده ؛ وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم .


[6685]:من قوله تعالى في الآية (44) من سورة (الأعراف): {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} ـ وتكررت في قوله تعالى في الآية (20) من سورة (الحشر): {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
[6686]:من الآية (119 من سورة البقرة)، وتكررت في الآيات (10،86 ـ المائدة) و (113 ـ التوبة) و (51 ـ الحج) و (19 ـ الحديد).
[6687]:بطول: مصدر الفعل (بطل)، والمعنى المراد أنه عرض على الفتيين بطلان أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق في قوله: {أرباب متفرقون}، وقد يضاف إلى التفرق دليلا على بطلان أمرها التعدد أيضا، فقد قال عنها [أرباب] بصيغة الجمع، و كذلك هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري إلى جانب ما وصف به الله سبحانه وتعالى من الوحدة والقهر إزاء تعددها وتفرقها. و (تلطف حسن ) هو جواب المبتدأ (عرضه).