ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومنهج الجاهلية . بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم ، ومن تفاهة اهتماماتهم ، وصغر تصوراتهم . . يقول :
( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ) . .
إن هؤلاء ، القريبي المطامح والاهتمامات ، الصغار المطالب والتصورات . . هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . ثقيلا بتبعاته . ثقيلا بنتائجه . ثقيلا بوزنه في ميزان الحقيقة . . إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق ؛ ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية ، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة ، من ثراء وسلطان ومتاع ، فإنما هي العاجلة ، وإنما هو المتاع القليل ، وإنما هم الصغار الزهيدون !
ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم . فهم يختارون العاجلة ، ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير ، بعد الحساب العسير !
فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين معه ، في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون . إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل .
الإشارة ب { هؤلاء } إلى كفار قريش ، و { العاجلة } الدنيا وحبهم لها ، لأنهم لا يعتقدون غيرها ، { ويذرون وراءهم } معناه فيما يأتي من الزمن بعد موتهم ، وقال لبيد : [ الطويل ]
أليس ورائي إن تراخت منيتي*** أدب مع الولدان إن خف كالنسر
ووصف اليوم بالثقل على جهة النسب ، أي : ذا ثقل من حيث الثقل فيه على الكفار ، فهو كليل نائم .
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى : { ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء } الآية [ النساء : 89 ] . فموقع { إنّ } موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر .
و { هؤلاء } إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم ، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق { هؤلاء } دون سبْققِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون ، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } في سورة الأنعام ( 89 ) وقوله تعالى : { فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء } في سورة هود ( 109 ) .
وقد تنزه رسول الله عن محبة الدنيا فقال : ما لي وللدنيا فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال : حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب .
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور ، وما بالطبع لا يتخلف ، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى : { ولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية } [ الرعد : 38 ] .
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية .
وصيغة المضارع في { يحبّون } تدل على تكرر ذلك ، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة .
و { العاجلة } : صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره : الحياة العاجلة ، أو الدار العاجلة . والمراد بها مدة الحياة الدنيا .
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله : { كلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة } [ القيامة : 20 ، 21 ] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة .
ومتعلق { يحبّون } مضافٌ محذوف ، تقديره : نعيمَ أو منافعَ لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا .
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة . وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر ، فقوله : { ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً } واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون : { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] . وهذا نظير قوله تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } [ الروم : 7 ] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة .
ومُثلوا بحال من يترك شيئاً وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه .
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه .
وصيغة المضارع في { يذرون } تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم ، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يَخلُون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى .
واليومُ الثقيل : هو يوم القيامة ، وُصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله .
والثقل : يستعار للشدة والعسر قال تعالى : { ثقُلت في السماوات والأرض } [ الأعراف : 187 ] وقال : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هؤلاء} الذين يأمرونك بالكفر {يحبون العاجلة} يعني الدنيا، لا يهمهم شيء إلا أمر الدنيا؛ الذهب والفضة والبناء والثياب والدواب.
{ويذرون وراءهم} يعني أمامهم وكل شيء في القرآن وراءهم، يعني أمامهم.
{يوما ثقيلا} لأنها تثقل على الكافرين إذا حشروا وإذا وقفوا وإذا حاسبوهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنّ هَؤُلاءِ يُحِبّونَ العاجِلَةَ" يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المشركين بالله يحبون العاجلة، يعني الدنيا، يقول: يحبون البقاء فيها، وتعجبهم زينتها.
"ويذرونَ وراءهُمْ يوما ثَقِيلاً" يقول: ويدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة، وما لهم فيه النجاة من عذاب الله يومئذ. وقد تأوّله بعضهم بمعنى: ويذرون أمامهم يوما ثقيلاً، وليس ذلك قولاً مدفوعا، غير أن الذي قلناه أشبه بمعنى الكلمة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
حب العاجلة مما طبع عليه الخلائق لأن كل مخلوق طبع على حب الانتفاع والتمتع بالشيء، فلا يلحقهم الذم بحب ما طبعوا عليه، وأنشئوا. ولكن إنما يلحق الذم من أحب الدنيا، واختارها، وآثرها على غير الذي جعلت الدنيا له وأنشئت؛ فالدنيا إنما أنشئت وجعلت ليكتسب بها نعيم الآخرة والحياة الدائمة اللذيذة. فمن أحب لهذا، فهو لا يلحقه بذلك ذم ولا تعيير، ومن أحبها، وآثرها لها، واكتسبها لها، فهو المذموم، وأولئك كانوا مختلفين في ذلك، لم يكونوا على فن واحد.
ومنهم من حمل حبه إياها على إنكار وحدانيته تعالى وألوهيته.
ومنهم من حمل حبه إياها على تكذيب الرسل والتعادي لهم ومكابرة الحق.
ومنهم من حمل حبه إياها على إنكار البعث والجزاء لما عملوا.
ومنهم من حمل حبه الدنيا على التفريق بين الرسل: أنكروا بعضا وصدقوا بعضا وتولد من حبهم إياها ما ذكرنا، فلحقهم الذم لذلك.
ثم إذا ذكرت الدنيا ذكرت الآخرة وراءها، وإذا ذكرت الآخرة وذكر على إثر ذلك الإنسان، قيل: أمامه؛ لأن الإنسان مقبل إليها، فتكون تلك أمامه وقدّامه. وأما عند ذكر الآخرة قيل: وراءها، لأنها تخلفها، وكل من خلف آخر يكون بعده ووراءه، لأنه يكون عند فوت الآخر؛ لذلك كان ما ذكر.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) هو يوم القيامة، وتركهم له، هو تركهم العمل والسعي له.
وقوله: (ثقيلا) يجوز أن يكون سماه ثقيلا لشدة الهول والفزع فيه، ويجوز أن يكون سماه ثقيلا لفصل القضاء فيه بين العباد وعدله معهم، وهو في غاية الثقل عليهم إلا من تداركه الله بفضله.
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية، وفي الآية سؤالان: السؤال الأول: لم قال: وراءهم ولم يقل: قدامهم؟
(أحدها): لما لم يلتفتوا إليه، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
(وثانيها): المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف.
(وثالثها): أن تستعمل بمعنى قدام كقوله: {من ورائه جهنم}، {وكان وراءهم ملك}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} [الإنسان: 24]، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإِعراض عن الآخرة، إذ هم لا يؤمنون بالبعث، فلو أطاعهم لتخلق بخلقهم، قال تعالى: {ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء} الآية [النساء: 89].
و {هؤلاء} إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريْتُ من القرآن أنه إذا أطلق {هؤلاء} دون سبْقِ ما يكون مشاراً إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرتُ ذلك في تفسير قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين} في سورة الأنعام (89) وقوله تعالى: {فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء} في سورة هود (109).
وقد تنزه رسول الله عن محبة الدنيا فقال: ما لي وللدنيا فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال: حُبِّب إليّ مِن دنياكم النساء والطيب.
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبَرَّأ من الإِيقاع في فساد ومَا هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى: {ولقد أرسلنا رُسُلاً مِن قبلك وجعلْنا لهم أزواجاً وذُرِّية} [الرعد: 38].
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية.
وصيغة المضارع في {يحبّون} تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة.
و {العاجلة}: صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره: الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمراد بها مدة الحياة الدنيا.
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله: {كلا بل تُحِبُّون العاجلة وتَذرُون الآخرة} [القيامة: 20، 21] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة.
ومتعلق {يحبّون} مضافٌ محذوف، تقديره: نعيمَ أو منافعَ، لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا.
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم، لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة. وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضُوا بالدون لأنه عاجل، وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله: {ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً} واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم، لأنهم لوْ أحبُّوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين، قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون: {وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]. وهذا نظير قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإِعراض عن العلم بالآخرة.
ومُثلوا بحال من يترك شيئاً وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه.
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه.
وصيغة المضارع في {يذرون} تقتضي أنهم مستمرون على ذلك، وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم. فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يَخلُون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى.