في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته ؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء :

( الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلاً ، لعلكم تهتدون ) . .

وحقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور . والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير ، وأمامهم ممهدة للزرع ، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء . ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق ، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب - لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا - والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن ؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق ، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم ، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان .

ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهداً لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار ، حتى صار مهداً لبني الإنسان . وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع ؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين ؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة ؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه ، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء ?

ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية ، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة ؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه ، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها ، فأفلت هواؤها كالقمر مثلاً ! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض ؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر ؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض ؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية ، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقاً ، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحياناً بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا ! ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجاراً !

ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهداً وتذليل السبل فيها للحياة ، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له ؛ ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت . فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا ، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها ، والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة . ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به ، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها ؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان .

وهكذا . وهكذا . من المدلولات الكثيرة لحقيقة : ( جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً )تتكشف لنا في كل يوم ؛ وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة . وكلها تشهد بالقدرة كما

تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم . وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة ، في حيثما امتد بصره ، وتلفت خاطره وأنه غير مخلوق سدى وغير متروك لقى " وأن هذه اليد تمسك به ، وتنقل خطاه ، وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة ، وقبل الحياة ، وبعد الحياة !

( لعلكم تهتدون ) . . فإن تدبر هذا الكون ، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون ، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب . .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

شرح الكلمات :

{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً } : أي الله الذي جعل لكم الأرض فراشا كالمهد للصبي .

{ وجعل لكم فيها سبلا } : أي طرقا .

{ لعلكم تهتدون } : أي إلى مقاصدكم في أسفاركم .

المعنى :

وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهداً } أي فراشاً وبساطاً كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذْ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفاً لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهداً } أي بساطاً وفراشاً ، وجعل لكم فيها سبلاً أي طرقاً لعلكم تهتدون إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم في البلاد هنا وهناك ، والذي نزل من السماء ماء بقدر وهو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفاناً مغرقا مهلكاً .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

ثم ابتدأ دالاً على نفسه بصنعه فقال :{ الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون } إلى مقاصدكم في أسفاركم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم دل على نفسه بصنعه ليوحد، فقال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا}، يعني فرشا.

{وجعل لكم فيها سبلا}، يعني طرقا تسلكونها.

{لعلكم تهتدون}، يقول لكي تعرفوا طرقها...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدا" يقول: الذي مهّد لكم الأرض، فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم.

"وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً" يقول: وسهّل لكم فيها طرقا تتطرّقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم...

"لَعَلّكُمْ تَهْتَدُون" يقول: لكي تهتدوا بتلك السبل إلى حيث أردتم من البُلدان والقُرى والأمصار، لولا ذلك لم تطيقوا براح أفنيتكم ودوركم، ولكنها نعمة أنعم بها عليكم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جائز أن يكون ذكر هذا على سبيل النّعت والوصف لله تعالى عز وجل صلة لقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} الذي وصفه أنه جعل الأرض كذا، وأنزل كذا.

ويحتمل أن يكون أراد بقوله: {ولئن سألتهم} عن الأرض وما ذكر به مِن جعلها مهدا ومن جعله لهم فيها سُبلا قالوا: الله جعل ذلك على ما قالوا في السماوات والأرض.

وفيه وجوه من الدلالة:

أحدها: يذكّرهم نعمه عليهم.

والثاني: دلالة حكمته ليدُلّهم أنه إنما جعل لهم ما ذكر لحكمته، ولم يجعلها عبثا باطلا فيُلزمهم الشكر حين فرّق حوائجهم في أمكنة متباعدة، ثمّ مكّن لهم الوصول إليها، ليعلموا أن الذي ملك أنفسهم، هو مالك أطراف الأرض؛ إذ لو كان هذا غير مالك ذلك؛ لمنعهم عن الوصول إلى حوائجهم.

والثالث: دلالة قدرته حين جعل لهم في الأرض ما ذكر من التسخير لهم حتى يتظاهروا فيها، ويفترشونها ويسلكوا فيها السبل التي جعلها لهم إلى حيث أرادوها وقصدوها، ومكّن لهم ليعلموا أن من قدر على ما ذكر لا يُعجزه شيء...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قيل: معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين والاعتبار الذي جعل لكم بالنظر فيها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

حقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب -لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا- والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان...

(لعلكم تهتدون).. فإن تدبر هذا الكون، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

في تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم؛ لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار والسيرُ في الأرض قريباً أو بعيداً من أكبر مظاهر المدنِيَّة الإنسانية؛ ولأن الله جعل في الأرض معايش النّاس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية. والاهتداء: مطاوع هداه فاهتدى. والهداية حقيقتها: الدلالة على المكان المقصود، ومنه سمي الدال على الطرائق هادياً، وتطلق على تعريف الحقائق المطلوبة ومنه

{إنّا أنزلنا التوراة فيها هُدىً ونورٌ} [المائدة: 44].

والمقصود هنا المعنى الثاني، أي رجاء حصول علمكم بوحدانية الله وبما يجب له، ومعنى الرجاء المستفاد من (لعل) استعارة تمثيلية تبعية، مُثِّل حال من كانت وسائل الشيء حاضرة لديه بحال من يُرجى لحصول المتوسل إليه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... الحق سبحانه حين يمتنُّ عليهم ببعض نِعَمه عليهم إنما ليُرقِّق قلوبهم ويستميلهم إلى ساحته، لعلهم يهتدون إليه ويؤمنون به ويُصدِّقون برسوله.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

قوله تعالى : " الذي جعل لكم الأرض مهادا " وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة . وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه ، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الأرض " مهادا " فراشا وبساطا . وقد تقدم{[13586]} . وقرأ الكوفيون " مهدا " " وجعل لكم فيها سبلا " أي معايش . وقيل طرقا ، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم .

قوله تعالى : " لعلكم تهتدون " فتستدلون بمقدوراته على قدرته . وقيل : " لعلكم تهتدون " في أسفاركم . قاله ابن عيسى . وقيل : لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم . قاله سعيد بن جبير . وقيل : تهتدون إلى معايشكم .


[13586]:راجع ج 11 ص 209.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (10)

ولما كان جوابهم بغير هاتين الصفتين ودل بذكرهما على أنهما لا زمان لاعترافهم تنبيهاً لهم على موضع الحجة ، أتبعهما من كلامه دلالة على ذلك قوله التفاتاً إلى الخطاب لأنه أمكن في التقريع والتوبيخ والتشنيع وتذكيراً لهم بالإحسان الموجب للإذعان وتفصيلاً للقدرة : { الذي جعل لكم } فإنه لو كان ذلك قولهم لقالوا لنا { الأرض مهداً } أي فراشاً ، قارة ثابتة وطية ، ولو شاء لجعلها مزلزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال ، أو جعلها مائدة لا تثبت لكونها على تيار الماء ، ولما جعل الأرض قراراً لأشباحكم جعل الأشباح قراراً لأرواحكم وطوقها حمل قرارها وقوة التصرف به في حضورها وأسفارها ليدلكم ذلك على تصرفه سبحانه في الكون وتصريفه له حيث أراد ، وأنه الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن الذي لا أبطن منه ، قال القشيري : فإذا انتهى مدة كون النفوس على الأرض حكم الله بخرابها ، كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكلية قضى الله بخرابها ، وأعاد الفعل تنبيهاً على تمكنه تعالى من إقامة الأسباب لتيسير الأمور الصعاب إعلاماً بأنه لا يعجزه شيء : { وجعل لكم فيها سبلاً } أي طرقاً تسلكونها بين الجبال والأودية ، ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ، ثم ذكر العلة الغائبة في ذلك فقال : { لعلكم تهتدون } أي ليكون خلقنا لها كذلك جاعلاً حالكم حال من يرجى له الهداية إلى مقاصد الدنيا في الأسفار وغيرها ظاهراً فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة للأمور الرافقة النافعة ، فإنها إذا تكرر سلوكها صار لها من الآثار الناشئة من كثرة التكرار ما يهدي كل مار وإلى المقاصد الأخرى وحكمتها باطناً إذا تأمل الفطن حكمة مسخرها وواضعها وميسرها .