في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَتۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ} (32)

15

ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم ، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة ، برضاهم وموافقتهم :

قالت : يا أيها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . .

وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة ؛ فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم ، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء . وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه( كريم )وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة ، ولكنها لا تقول هذا صراحة ، إنما تمهد له بذلك الوصف . ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَتۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ} (32)

لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها ، وما قد نزل بها ؛ ولهذا قالت : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } أي : حتى تحضرون وتشيرون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَتۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ} (32)

سألتْهم إبداء آرائهم ماذا تعمل تجاه دعوة سليمان . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مثل التي قبلها .

والإفتاء : الإخبار بالفَتوى وهي إزالة مشكل يعرض . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان } في سورة يوسف ( 41 ) .

والأمر : الحال المهم ، وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شؤون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة ، ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين : وَليُّ الأمر . وبهذه الثلاثة فُسِّر قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] . وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان :

أَوَليَّ أمرِ اللَّه إنا مَعشر *** حُنفاء نسجد بكرة وأصيلاً

فهذا معنى قولهم لها : { والأمرُ إليك } [ النمل : 33 ] .

وقد أفادت إضافة { أمري } تعريفاً ، أي في الحادثة المعيَّنة .

ومعنى { قاطعة أمراً } عاملةً عملاً لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان .

وصيغة { كنت قاطعة } تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم ، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرِّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين .

والأمر في { ما كنت قاطعة أمراً } هو أيضاً الحال المهم ، أي أنها لا تقضي في المهمات إلا عن استشارتهم .

و { تَشهدون } مضارع شَهِد المستعمل بمعنى حَضر كقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر } [ البقرة : 185 ] ، أي حتى تَحْضُرون . وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات ، وذلك تعدّ على التوسع لكثرته ، وحق الفعل أن يُعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف . يقال : شهد عند فلان وشهد مجلس فلان . ويقال : شهد الجمعة . وفعل { تشهدون } هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالباً إذ لا تقع مشاورة مع غائب .

والنون في { تشهدون } نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسوراً ، ونون الوقاية دالة على المحذوف .

وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلاً ووقفاً . وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلاً ووقفاً .

وفي قولها : { حتى تشهدون } كناية عن معنى : توافقوني فيما أقطعه ، أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة : إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة ، وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة . ولذلك قال فقهاؤنا : إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم ، أو مشاورتهم . وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عُمر يستشيرهم وإن لم يَحضروا . وقال الفقهاء : إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه .

وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شَرعاً إلهياً ولا سيق مساق المدح ، ولكنه حكاية ما جَرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي ؛ غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القَصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للإسوة كما قدمناه في المقدمة السابعة . فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى . وتقدم ذكر الشورى في سورة آل عمران .