ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد . صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق :
( ونادوا : يا مالك . ليقض علينا ربك ) . .
إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق . من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم . إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين . إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث . فهم مبلسون يائسون . إنما يصيحون في طلب الهلاك . الهلاك السريع الذي يريح . . وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا ! . . وإن هذا النداء ليلقي ظلاً كثيفاً للكرب والضيق . وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوساً أطار صوابها العذاب ، وأجساماً تجاوز الألم بها حد الطاقة ، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة : ( يا مالك . ليقض علينا ربك ) !
{ وَنَادَوْا يَامَالِكُ } وهو : خازن النار .
قال البخاري : حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن عطاء {[26140]} ، عن صفوان بن يعلى ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } {[26141]} أي : ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ، فإنهم كما قال تعالى : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] . وقال : { وَيَتَجَنَّبُهَا{[26142]} الأشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى . ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [ الأعلى : 11 - 13 ] ، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك ، { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } : قال ابن عباس : مكث ألف سنة ، ثم قال : إنكم ماكثون . رواه ابن أبي حاتم .
ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالكاً خازن النار ، فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا .
وقرأ النبي عليه السلام على المنبر : «يا مالكٍ » بالكاف ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش : «يا مال » بالترخيم ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت ، كما قال تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } [ القصص : 15 ] وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة ، وقال نوف : مائة سنة ، وقيل : ثمانين سنة . وقال عبد الله بن عمر : وأربعين سنة ، ثم حينئذ يقول لهم : { إنكم ماكثون } .
جملة { ونادوا } حال من ضمير { وهم فيه مبلسون } [ الزخرف : 75 ] ، أو عطف على جملة { وهم فيه مبلسون } . وحكي نداؤهم بصيغة الماضي مع أنه مما سيقع يوم القيامة ، إما لأن إبلاسهم في عذاب جهنم وهو اليأس يكون بعد أن نادوا يا مالك وأجابهم بما أجاب به ، وذلك إذا جعلت جملة { ونادوا } حالية ، وإمّا لتنزيل الفعل المستقبل منزلة الماضي في تحقيق وقوعه تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر نحو قوله تعالى : { ويوم ينفخ في الصور } [ النمل : 87 ] { فصَعِق مَن في السماوات ومَن في الأرض } [ الزمر : 68 ] وهذا إن كانت جملة { ونادوا } الخ معطوفة .
و ( مالك ) المنادى اسم الملَك الموكّل بجهنم خاطبوه ليرفع دعوتهم إلى الله تعالى شفاعة .
واللام في { ليقض علينا ربك } لام الأمر بمعنى الدعاء . وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا ، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار مَّا مثل التعظيممِ في نحو قول الوزير للخليفة : لِيَرَ الخليفة رأيه .
والقضاء بمعنى : الإماتة كقوله : { فوكزه موسى فقضَى عليه } [ القصص : 15 ] ، سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب . وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جواباً جامعاً لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعدُ .
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما روي أن ابن مسعود قرأ ( ونادَوا يا مَالِ ) بحذف الكاف على الترخيم ، فذكرت قراءته لابن عباس فقال : مَا كان أشغلَ أهلَ النار عَن الترخيم ، قال في « الكشاف » : وعن بعضهم : حسَّن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه اهـ . وأراد ببعضهم ابنَ جني فيما ذكره الطِّيبي أن ابن جنّي قال : وللترخيم في هذا الموضع سرّ وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفتْ وذلّتْ أنفُسهم وصغر كلامهم فكان هذا من مواضع الاختصار . وفي « صحيح البخاري » عن يَعْلَى بن أمية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر { ونادوا يا مالك } بإثبات الكاف . قال ابن عطية : وَقِرَاءَةُ ( ونادوا يا مال ) رواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالوجهين وتواترت قراءة إثبات الكاف وبقيت الأخرى مروية بالآحاد فلم تكن قرآناً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.