فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم ، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه ، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به . وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد ، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب ، يدفعه دفعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه ، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام :
( قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . .
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم : إنا سمعنا كتابا جديدا أنزل من بعد موسى ، يصدق كتاب موسى في أصوله . فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى ، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن ، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه ، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى . وشهادة هؤلاء الجن البعيدين - نسبيا - عن مؤثرات الحياة البشرية ، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن ، ذات دلالة وذات إيحاء عميق .
ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه ، وما أحست ضمائرهم فيه ، فقالوا عنه :
( يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . .
ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم ، لا يقف له قلب غير مطموس ؛ ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم . ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة ، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة ، وتعبر عما مسها منه هذا التعبير .
ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرًا عنهم : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ] } {[26590]} ، ولم يذكروا عيسى ؛ لأن عيسى ، عليه السلام ، أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة هو التوراة ؛ فلهذا قالوا : أنزل من بعد موسى . وهكذا قال ورقة بن نوفل ، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل [ عليه السلام ] {[26591]} عليه أول مرة ، فقال : بَخ بَخ ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى ، يا ليتني أكون فيها جَذَعًا .
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله على الأنبياء . وقولهم : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : في الاعتقاد والإخبار ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } في الأعمال ، فإن القرآن يشتمل على شيئين {[26592]} خبر وطلب{[26593]} ، فخبره صدق ، وطلبه عدل ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] ، وقال { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] ، فالهدى هو : العلم النافع ، ودين الحق : هو العمل الصالح . وهكذا قالت الجن : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } في الاعتقادات ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في العمليات .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الذين صُرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجن لقومهم لما انصرفوا إليهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا قَوْمَنا من الجنّ إنّا سَمِعْنا كِتابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسَى مُصَدّقا لِمَا بَيَنَ يَدَيْهِ يقول : يصدّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رَسُله .
وقوله : يَهْدِي إلى الحَقّ يقول : يرشد إلى الصواب ، ويدلّ على ما فيه لله رضا وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : وإلى طريق لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة أنه قرأ قالُوا يا قَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ فقال : ما أسرع ما عقل القوم ، ذُكر لنا أنهم صُرِفوا إليه من نينوي .
وجملة { قالوا يا قومنا } إلى آخرها مبينة لقوله : { منذرين } . وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس ، وكذلك فعل { قالوا } مجاز عن الإفادة ، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معانيَ ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى : { قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] . وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتاباً تمهيداً للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرفَ المخاطبون لما بعد ذلك .
ووصْف الكتاب بأنه { أنزل من بعد موسى } دون : أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن « التوراة » آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن ، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل « زبور داود » و« إنجيل عيسى » ، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد « التوراة » فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه « التوراة » .
و{ ما بين يديه } : ما سبقه من الأديان الحق . ومعنى { يهدي إلى الحق } : يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به .
والمراد بالطريق المستقيم : ما يسلك من الأعمال والمعاملة . وما يترتب على ذلك من الجزاء ، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره . ويجوز أن يراد ب { الحق } ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.