وقوله : { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } يقول{[27318]} الرب عز وجل للإنسي وقرينه من الجن ، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق فيقول الإنسي : يا رب ، هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني . ويقول الشيطان : { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي : عن منهج الحق . فيقول الرب عز وجل لهما : { لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } أي : عندي ، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } أي : قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين .
وقوله : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ يقول تعالى ذكره : قال الله لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم ، وصفة قرنائهم من الشياطين لا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ اليوم وَقَدْ قَدّمْتُ إلَيْكُمْ في الدنيا قبل اختصامكم هذا ، بالوعيد لمن كفر بي ، وعصاني ، وخالف أمري ونهي في كتبي ، وعلى ألسن رسلي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، قال : حدثنا جعفر ، قال : سمعت أبا عمران يقول في قوله : وَقَدْ قَدّمْتُ إلَيْكُمْ بالوَعِيدِ قال : بالقرآن .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ قال : إنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم ، وردّ عليهم قولهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ وَقَدْ قَدّمْتُ إلَيْكُمْ بالوَعِيدِ قال : يقول : قد أمرتكم ونهيتكم ، قال : هذا ابن آدم وقرينه من الجن .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، قال : قلت لأبي العالية لا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ وَقَدْ قَدّمْتُ إلَيْكُمْ بالوَعِيدِ قال أبو جعفر الطبريّ : أحسبه قال : هم أهل الشرك ، وقال في آية أخرى ثُمّ إنّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فهم أهل القبلة .
{ قال } أي الله تعالى . { لا تختصموا لدي } أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه ، وهو استئناف مثل الأول . { وقد قدمت إليكم بالوعيد } على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة ، وهو حال تعليل للنهي أي { لا تختصموا } عالمين بأني أوعدتكم ، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم ، ويجوز أن يكون { بالوعيد } حالا .
وقوله تعالى : { لا تختصموا لدي } معناه : قال الله { لا تختصموا لدي } بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً إذ قد استوجب جميعكم النار ، وقد أخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص . واقتضاء فائدة بقوله تعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون }{[10542]} [ الزمر : 31 ] ، وجمع الضمير في قوله : { لا تختصموا } يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء ، إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط ، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين : لا تغلطوا علي ، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما . وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة .
المعنى : قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري ، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي .
هذا حكاية كلام يصدر يومئذٍ من جانب الله تعالى للفريقين الذي اتَّبعوا والذين اتُّبعوا ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام يدل عليه قوله : { فكشفنا عنكَ غطاءك } [ ق : 22 ] .
وعدم عطف فعل { قال } على ما قبله لوقوعه في معرض المقاولة ، والتعبير بصيغة الماضي لتحقق وقوعه فقد صارت المقاولة بين ثلاثةِ جوانب .
والاختصام : المخاصمة وهو مصدر بصيغة الافتعال التي الأصل فيها أنها لمطاوعة بعض الأفعال فاستعملت للتفاعل مثل : اجتوروا واعتوروا واختصموا .
والنهي عن المخاصمة بينهم يقتضي أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطْغَوْها ، وأن القرناء تنصلوا من ذلك وأن النفوس أعادت رَمي قرنائها بذلك فصار خصاماً فلذلك قال الله تعالى : { لا تختصموا لدى } وطوي ذكره لدلالة { لا تختصموا } عليه إيثارا لحق الإيجاز في الكلام . والنهي عن الاختصام بعد وقوعه بتأويل النهي عن الدوام عليه ، أي كفوا عن الخصام .
ومعنى النهي أن الخصام في ذلك لا جدوى له لأن استواء الفريقين في الكفر كاففٍ في مؤاخذة كليهما على السواء كما قال تعالى : { قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } [ الأعراف : 38 ] ، وذلك كناية عن أن حكم الله عليهم قد تقرر فلا يفيدهم التخاصم لإلقاء التبعة على أحد الفريقين .
ووجه استوائهما في العذاب أن الداعي إلى إضلاله قائم بما اشتهته نفسه من ترويج الباطل دون نظر في الدلائل الوزاعة عنه وأن متلقّي الباطل ممن دعاه إليه قائم بما اشتهته نفسه من الطاعة لأيمة الضلال فاستويا في الداعي وترتُّب أثره .
والواو في { وقد قدمت } واو الحال . والجملة حال من ضمير { تختصموا } وهي حال معللة للنهي عن الاختصام .
والمعنى : لا تطمعوا في أنّ تدافعكم في إلقاء التَبعة ينجيكم من العقاب بعد حال إنذاركم بالوعيد من وقت حياتكم فما اكترثتم بالوعيد فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن من أنذر فقد أعذر .
فقوله : { وقد قدمت إليكم بالوعيد } كناية عن عدم الانتفاع بالخصام كون العقاب عدلاً من الله . والباء في { بالوعيد } مزيدة للتأكيد كقوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . والمعنى : وقد قدمت إليكم الوعيد قبل اليوم .
والتقديم : جَعْل الشيء قدام غيره . المراد به هنا : كونه سابقاً على المؤاخذة بالشرك لأن الله توعدهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.