اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَا تَخۡتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدۡ قَدَّمۡتُ إِلَيۡكُم بِٱلۡوَعِيدِ} (28)

قوله : «قَالَ قَرِينُهُ » جاءت هذه بلا واو ؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال : ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه : مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال{[52439]} . قال ابن الخطيب : جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين ، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول ، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو ، فإن الفاء في قوله : { فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب } لا يناسب قوله : «قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ » فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو .

فصل

هذا جواب لكلام مقدر ، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شَيْطَانِي ، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة «ص » : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } [ ص : 60 ] إلى قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار }{[52440]} [ ص : 64 ] . قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ{[52441]} ، وعلى هذا فيكون قوله : { رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُهُ } ، مناقضاً لقوله : أعتدته .

قال ابن الخطيب : وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين :

أحدهما : أن يقول ( إن قول ){[52442]} الشيطان : أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له .

والثاني : أن تكون الإشارة إلى حالين ، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول : رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب{[52443]} . قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : المُرادُ بالقرينِ هنا : الملك أي يقول الكافر : ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك : رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل { ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق{[52444]} .

فإن قيل : القائل هنا واحد وقال : رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل : ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال : ربّ ، كقوله : { رَبِّ أَرِنِي } [ البقرة : 260 ] وقال نوح : { رَّبِّ اغفر لِي } [ نوح : 28 ] { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض } [ نوح : 26 ] { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً } [ التحريم : 11 ] «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي »{[52445]} .

فالجواب : أن في جميع تلك المواضع القائل طالب ، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول : أعطِنا لأن كونه : «رَبًّا » لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ . وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال : ربنا ما أطغيته .

فإن قيل : ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ ؟

فالجواب : أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً ، وإذا عدم{[52446]} الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله : «ضلال بعيد » وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل ، كما يقال : كلامٌ صَادقٌ ، وعيشةٌ راضيةٌ أي ( و ){[52447]} ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق ( وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب{[52448]} ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق ) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً ، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع ، فتارةً قال : { في ضلال مبين } ، وأخرى : { في ضلال بعيد } .

فإن قيل : كيف قال : ما أطغيته مع أنه قال : «لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » ؟

فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري .

والثالث : أن المراد من قوله : «لأغوينهم » أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص : أنت على الجَادَّة فلا تترُكها ، يقال : إنه يضله . كذا ههنا ، فقوله : «ما أطغيته » أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي{[52449]} .

قوله : «لاَ تَخْتَصِمُوا » استئناف أيضاً كأن قائلاً قال : فماذا قال الله له ؟ فأجيب : يقال لا تختصموا{[52450]} وقوله : «لَدَيَّ » يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ ، والوقوفِ بين يَدَيَّ{[52451]} .

قوله : «وَقَدْ قَدَّمْتُ » جملة حالية ، ولا بدّ من تأويلها ، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا ، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية ؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ{[52452]} . و«قَدَّمْتُ » يجوز أن يكون «قدمت » على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد ، كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدُّهن } [ المؤمنون : 20 ] على قول من قال بزيادتها هناك . وقيل : الباء هنا للمصاحبة ، كقولك : اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار{[52453]} .


[52439]:البحر 8/126.
[52440]:وانظر الرازي السابق.
[52441]:انظر الكشاف 4/7.
[52442]:زيادة من (أ).
[52443]:وانظر الرازي 28/169، 170.
[52444]:البغوي والخازن 6/236 و237.
[52445]:في النسختين تبعا للرازي: "قال رب انظرني وهذا لحن فالقرآن: "ربّ" بلفظ "فأنظِرني" وهي الآية 36 من الحجر و79 من سورة "ص".
[52446]:كذا في النسختين وفي الرازي: علم.
[52447]:زيادة من النسختين لا معنى لها.
[52448]:ما بين القوسين سقط من الأصل بسبب انتقال النظر.
[52449]:وانظر تفسير العلامة الفخر 28/168.
[52450]:قاله أبو حيان في البحر 8/126 والزمخشري في الكشاف 4/8.
[52451]:وهو قول الرازي في تفسيره الكبير السابق 28/169.
[52452]:بالمعنى من الكشاف 4/8 والبحر 8/128. أقول: وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة.
[52453]:في (ب) بالإنذار –بالباء- وانظر الرازي 28/169.