اصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا . . وخل بيني وبين المكذبين ، فأنا بهم كفيل : ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) . . كلمة يقولها الجبار القهار القوي المتين . . ( ذرني والمكذبين ) . . والمكذبون بشر من البشر ، والذي يتهددهم هو الذي أنشأهم ابتداء وخلق هذا الكون العريض " بكن " ولا تزيد !
ذرني والمكذبين . . فهي دعوتي . وما عليك إلا البلاغ . ودعهم يكذبون واهجرهم هجرا جميلا . وسأتولى أنا حربهم ، فاسترح أنت من التفكير في شأن المكذبين !
إنها القاصمة المزلزلة المذهلة حين يخلو الجبار ، إلى هذه الخلائق الهينة المضعوفة . . ( أولي النعمة )مهما يكن من جبروتهم في الأرض على أمثالهم من المخاليق !
( ومهلهم قليلا )ولو مهلهم الحياة الدنيا كلها ما كانت إلا قليلا . وإن هي إلا يوم أو بعض يوم في حساب الله . وفي حسابهم هم أنفسهم حين تطوى ، بل إنهم ليحسونها في يوم القيامة ساعة من نهار ! فهي قليل أيا كان الأمد ، ولو مضوا من هذه الحياة ناجين من أخذ الجبار المنتقم الذي يمهل قليلا ويأخذ تنكيلا :
أولي النَعمة : بفتح النون ، أصحاب النعيم المتنعمين بأموالهم وأولادهم . النعمة بفتح النون : الرفاهية وطيب العيش . والنِعمة بكسر النون : ما أنعم الله به على الإنسان من رزق ومال وغيره .
مهِّلهم وأمهلهم : اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم .
ثم أمر رسولَه أن يترك أمرَ المشركين إليه ، أولئك الذين أبطرتْهم النعمةُ ، فالله هو الكفيلُ بمجازاتهم وسوف لا يكون ذلك طويلا .
{ والمكذبين } : أي صناديد قريش فإِني أكفكهم .
{ أولي النعمة } : أي أهل التنعم والترف .
{ ومهلهم قليلا } : أي انتظرهم قليلا من الزمن حتى يهلكوا ببدر .
وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } أي اتركني والمكذبين من صناديد قريش أولي النعمة أي النعم والترف { ومهلهم قليلا } أي أنظرهم ولا تستعجل فإِني كافيكهم ، ولم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا في بدر على أيدي المؤمنين .
قوله تعالى : " وذرني والمكذبين " أي أرض بي لعقابهم . نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين . وقال مقاتل : نزلت في المطعمين{[15519]} يوم بدر وهم عشرة . وقد تقدم ذكرهم في " الأنفال " {[15520]} . وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة . وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا . " أولي النعمة " أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا " ومهلهم قليلا " يعني إلى مدة آجالهم . قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر . وقيل : " ومهلهم قليلا " يعني إلى مدة الدنيا .
ولما كان في أمره هذا بما يفعل ما يشق جداً بما فيه من احتمال علوهم ، أعلم بقرب فرجه{[69483]} بتهديدهم بأخذهم سريعاً فقال : { وذرني } أي اتركني على أي حالة اتفقت مني في معاملتهم ، وأظهر في موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف وتعميماً فقال : { والمكذبين } أي العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم .
ولما ذكر وصفهم الذي استحقوا به العذاب ، ذكر الحامل عليه تزهيداً فيه وصرفاً عن معاشرة أهله لئلا تكون المعاشرة فتنة فتكون حاملة على الاتصاف به وجارّة إلى حب الدنيا فقال : { أولي النعمة } أي أصحاب التنعم بغضارة العيش والبهجة التي أفادتهموها{[69484]} النعمة - بالكسر وهي الإنعام وما ينعم به من الأموال والأولاد ، والجاه الذي أفادته النعمة - بالضم وهي المسرة التي تقتضي الشكر وهم أكابر قريش وأغنياؤهم .
ولما كان العليم القدير إذا قال مثل هذا لولي من أوليائه عاجل عدوه ، قال محققاً للمراد بما أمر به من الصبر من هذا في النعم الدنيوية بأن زمنها قصير : { ومهلهم } أي اتركهم برفق وتأن وتدريج ولا تهتم{[69485]} بشأنهم .
ولا سره بوعيدهم الشديد بهذه العبارة{[69486]} التي مضمونها أن أخذهم بيده صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يسأل في تأخيره{[69487]} لهم ، زاد في البشارة بقوله : { قليلاً * } أي من الزمان والإمهال إلى موتهم أو الإيقاع بهم قبله ، وكان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر يسير{[69488]} - قاله المحب الطبري ، وفيه بشارة له صلى الله عليه وسلم بالبقاء بعد أخذهم كما كان ، وأنه ليس محتاجاً في أمرهم إلى غير وكلهم سبحانه وتعالى بإلقائهم عن باله صلى الله عليه وسلم وتفريغ ظاهره وباطنه لما{[69489]} هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى من الإقبال على الله سبحانه ، ففي الآية أن من اشتغل بعدوه{[69490]} وكله الله إلى نفسه ، فكان ذلك كالمانع من{[69491]} أخذ الله له-{[69492]} ، فإذا توكل عليه فقد أزال ذلك المانع -{[69493]} .