( فإذا جاءت الصاخة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه . لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . . وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة . . )
فهذه هي خاتمة المتاع . وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل ، والتدبير الشامل ، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان . وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع . مع الذي جاء يسعى وهو يخشى . والذي استغنى وأعرض عن الهدى . ثم هذان هما في ميزان الله .
" والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن ، وهو يشق الهواء شقا ، حتى يصل إلى الأذن صاخا ملحا !
{ 33 - 42 } { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ }
أي : إذا جاءت صيحة القيامة ، التي تصخ لهولها الأسماع ، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال .
قوله تعالى : " فإذا جاءت الصاخة " لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم . والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية ، تصخ الأسماع : أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء . وذكر ناس من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه ، ومنه الحديث : ( ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ) . وقال الشاعر :
يُصِيخُ للنَّبْأة أسماعَه *** إصاخَةَ المُنْشِدِ للمنشِدِ
قال بعض العلماء : وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء ، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها . وأصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد . وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه قال الراجز :
يا جارتي هل لكِ أن تُجَالِدِي *** جلادة كالصَّك بالجَلاَمِدِ
ومن هذا الباب قول العرب : صختهم الصاخة وباتتهم البائتة ، وهي الداهية . الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه . قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان :
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
أَصَمَّنِي سِرُّهم أيامَ فُرقتهم *** فهل سمعتم بسِرٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة .
ولما ذكر عجائب الصنع في الطعام ، وكان ذلك يقطف فيعود{[71759]} لا سيما المرعى {[71760]}فإنه يأتي{[71761]} عليه الخريف فينشف ثم يتحطم من الرياح ويتفرق في الأرض ثم يصير تراباً ثم يبعث الله المطر فيجمعه من الأرض بعد أن صار تراباً ثم ينبته كما كان ، وكان ذلك مثل إحياء الموتى سواء ، فتحقق لذلك ما تقدم من أمر الإنشار بعد الإقبار ، وكان ذلك أيضاً مذكراً بأمر أبينا{[71762]} آدم عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالأكل من الجنة إلا من الشجرة التي نهاه عنها ، فلما أكل منها أخرجه من الجنة فسجنه في دار ليست بجنة{[71763]} ولا نار ولا غيرهما بل هي من ممتزج الدارين وكالبرزخ بينهما ، فيها ما يذكر بهذه وما يذكر بتلك ، وفيها أمثلة الموجدات كلها ، قال مسبباً عما ثبت به الإحياء للبعث إلى المحشر معبراً بأداة التحقق لأن الساعة مما لا بد منه ولا محيد عنه لأنها سر{[71764]} الكون فإن فيها حساب الذين استخلفوا في هذا الوجود وأفيضت{[71765]} عليهم النعم التي أودعها فيه ، وأشار إلى أنهم عاجزون عن القيام بشكرها ، وكثير منهم - بل أكثرهم - زاد على ذلك بكفرها ، فأوجب ذلك - ولا بد - حسابهم على ما فعلوا فيما استخلفوا فيه واسترعوه كما {[71766]}هي عادة{[71767]} كل مسترع ومستخلف : { فإذا جاءت } أي كانت ووجدت لأن كل ما هو كائن كأنه لاقيك وجاء إليك-{[71768]} { الصآخة * } أي الصرخة العظيمة التي يبالغ في إسماع الأسماع بها حتى تكاد تصمها{[71769]} لشدتها ، وكأنها تطعن فيها لقوة وقعتها وعظيم وجبتها ، وتضطر الآذان إلى أن تصيخ إليها أي-{[71770]} تسمع{[71771]} ، وهي من أسماء القيامة ، وأصل الصخ : الضرب بشيء صلب على مصمت .