وتلك العبارة الأخيرة : ( وللكافرين عذاب أليم ) . . تناسب ختام الآية السابقة ، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله . على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب :
( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ، والله على كل شيء شهيد ) . .
إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة . وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر . فريق الذين يحادون الله ورسوله ، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله ! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله . فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله ، بل عند الحد الآخر المواجه ! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين ، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم . وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه ، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده !
هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون : ( كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ) . . والأرجح أن هذا دعاء عليهم . والدعاء من الله - سبحانه - حكم . فهو المريد وهو الفعال لما يريد . والكبت القهر والذل . والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية ، كما حدث في غزوة بدر مثلا .
تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة . . لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات . وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة ، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات .
ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس :
( وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه . والله على كل شيء شهيد ) . .
{ إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه ، وقيل : إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما من المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها ، والأول أظهر ، وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد ، وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدوداً غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور .
قال الملوى شيخ الإسلام سعد الله جلبي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون ، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه ، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما ، وقد قال الله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، ولكن أين من يعقل ؟ا انتهى .
وليتني رأيت هذه الرسالة وقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل ، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا ، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى ، واتفق أن قال لي بعض خاصته يوماً : أرى ثلثي الشرع شراً ، فقلت له وإن كنت عالماً أن في أذنيه وقراً : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين ؛ فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الإشارة ، والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم ، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد خصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعاذير ، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في «شرح المنهاج » ، والقواعد لا تأباه ، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط ، وقد شاهدنا في في العراق مما يسمونه «جزاءً » ما القتل أهون منه بكثير .
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق . ورجم الزاني المحصن . وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهن إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي .
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقاً لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعاً » ولا نسميه «قانوناً » و «أصولاً » وإن لم يكن موافقاً لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشتة لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز وجل .
وأما ما يتعلق بحق بين المال في الأراض فما كان موافقاً لعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفاً لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظراً إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه ، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلاً على ما ذكره أبو يوسف في «كتاب الخراج » وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصاً عليه فإن كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد ، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه ، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصاً لها به ، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلهاً ، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ، ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة ، وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله ، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى ، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضياً بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر المسائل ، والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعاً ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلماً فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاء العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام ، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك من المحادّة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام ، ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي ، والذي يستوفيه الإمام هو حق الله تعالى للمصلحة ، وفي «كتاب الخراج » للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضاً ؛ ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصاً أو عموماً ، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصاً عليه بخصوصه ، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه ، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادماً لما نطقت به الشريعة الغراء زائغاً عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه ، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي : إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كائمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم ، ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش { كُبِتُواْ } أي أخزوا كما قال قتادة ، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة . والأخفش .
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال ، والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم ، وقال السدى : لعنوا ، وقيل : الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه ، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل ، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق ، وقيل : إلى ما كان يوم بدر ، وقيل : معنى { كُبِتُواْ } سيكبتون على طريقة قوله تعالى : { أتى أَمْر الله } [ النحل : 1 ] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم .
{ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } حال من واو { كُبِتُواْ } أي كبتوا لمحادّتهم ، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم ، وقيل : آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وللكافرين } أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولاً أولياً { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزهم وكبرهم .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) }
إن الذين يشاقون الله ورسوله ويخالفون أمرهما خُذِلوا وأُهينوا ، كما خُذِل الذين من قبلهم من الأمم الذين حادُّوا الله ورسله ، وقد أنزلنا آيات واضحات الحُجَّة تدل على أن شرع الله وحدوده حق ، ولجاحدي تلك الآيات عذاب مُذلٌّ في جهنم .
قوله تعالى : { إن الذين يحادّون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين 5 يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد 6 ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم 7 } .
ذلك تحذير للكافرين المكذبين الذين يشاقون الله ورسوله فإنهم بكفرهم وعصيانهم مصيبهم ما أصاب الظالمين السالفين من الخزي والخسران في الدنيا والآخرة . وهو قوله سبحانه وتعالى : { إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } يحادون ، من المحادّة وهي المخالفة ، ومنع ما يجب فعله{[4477]} .
يعني : إن الذين يخالفون أوامر الله وأحكام دينه ولا يرعون حدوده ويجعلون لأنفسهم حدودا غير حدود الله { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } أي ذلوا وخزوا وأذاقهم الله من الهوان ما أذاق الخاسرين من قبلهم . ولقد أذلّ الله سائر الطغاة والمجرمين والفاسقين من الأمم السابقة الذين شاقوا الله ورسوله وفسقوا عن دينه وأذوا أولياءه .
قوله : { وقد أنزلنا آيات بينات } أنزلنا إليكم أيها الناس علامات ودلالات ظاهرة تبين لكم صدق ما جاءكم به الرسول الأمين . أو بينا لكم الآيات في الذين خلوا من قبلكم من الفاسقين الذين حادوا الله ورسوله وما نزل بهم من سوء العقاب { وللكافرين عذاب مهين } ينذر بذلك ، الكافرين المكذبين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه من الحق ، فإنهم بتكذيبهم سيصلون العذاب الأليم في النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {إن الذين يحادون الله} يعني يعادون الله {ورسوله كبتوا كما كبت} يعني أخزوا كما أخزي {الذين من قبلهم} من الأمم الخالية. {وقد أنزلنا آيات بينات} يعني القرآن فيه البيان أمره ونهيه. {وللكافرين عذاب مهين} نزلت في اليهود والمنافقين {مهين} يعني الهوان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه، فيجعلون حدودا غير حدوده، وذلك هو المحادّة لله ولرسوله، وأما قتادة فإنه كان يقول:..." إنّ الّذِينَ يُحادّونَ الله وَرَسُولَهُ "يقول: يعادون الله ورسوله.
وأما قوله: "كُبِتُوا كمَا كُبِتَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فإنه يعني: غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم من الأمم الذين حادّوا الله ورسوله، وخزُوا... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معنى كُبِتُوا أهلكوا...
وقوله: "وَقَدْ أنْزَلْنا آياتٍ بَيّناتٍ" يقول: وقد أنزلنا دلالات مفصلات، وعلامات محكمات تدلّ على حقائق حدود الله.
وقوله: {وللْكافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} يقول تعالى ذكره: ولجاحدي تلك الآيات البيّنات التي أنزلناها على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنكريها عذاب يوم القيامة مهين: يعني مذلّ في جهنم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الذين يحادون الله ورسوله} قال بعض أهل الأدب: المحاد هو الذي يجعل نفسه في حد غير الذي أمره الله ورسوله، وكذلك قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} {الأنفال: 13} أي يكونون في شق غير الشق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلام نحوه. ومنهم من قال: حددته عن طريقه، أي عدلته عنه... {يحادّون الله ورسوله} أي يمانعون الناس، ويزجرونهم عن الطريق لئلا يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ويتبعوه...
{كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} قيل: غلبوا وردوا بغير حاجتهم كما غلب، ورد الذين كانوا من قبلهم. وقيل: أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم... ثم يخرج تأويله على وجهين:
أحدهما: أي كبت هؤلاء الذين منعوا الناس عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كما كبت من قبلهم...
والثاني: أي كبت هؤلاء الذين منعوا الناس عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كما كبت الذين مانعوهم عنه بمكة لأن هذه السورة مدنية، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وقد أنزلنا آيات بينات} أي آيات تبين حدود الله من غير حدوده، أو آيات تبين الحق من الباطل، والرسول من غيره، والمحاد من غير المحاد. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} أي للكافرين {بذلك كله} عذاب يهينهم كما أهانوا المؤمنين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآيات نزلت في منافقين وقوم من اليهود كانوا في المدينة يتمرسون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويتربصون بهم الدوائر، ويديرون عليهم ويتمنون فيهم المكروه ويتناجون بذلك، فنزلت هذه الآيات إلى آخر أمر النجوى فيهم...
وكبت الرجل: إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على دفعه... و {الذين من قبلهم} سابقو الأمم الماضية الذين حادوا الرسل قديماً...
وقوله تعالى: {وقد أنزلنا آيات بينات} يريد في هذا القرآن، فليس هؤلاء المنافقون بأعذر من المتقدمين...
يحادون أي يعادون ويشاقون، وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله...
الضمير في قوله: {يحادون} يمكن أن يكون راجعا إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادون الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى، ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم {كبتوا} أي خذلوا...كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل يقال له: مكبوت، {كما كبت الذين من قبلهم} من أعداء الرسل:[...] فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وللكافرين عذاب أليم).. تناسب ختام الآية السابقة، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله. على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب: (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد).. إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة. وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر. فريق الذين يحادون الله ورسوله، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله. فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله، بل عند الحد الآخر المواجه! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم. وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده! هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون: (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم).. والأرجح أن هذا دعاء عليهم. والدعاء من الله -سبحانه- حكم. فهو المريد وهو الفعال لما يريد. والكبت القهر والذل. والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية، كما حدث في غزوة بدر مثلا. (وقد أنزلنا آيات بينات).. تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.. لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات. وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات. ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس: (وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه. والله على كل شيء شهيد).. والمهانة جزاء التبجح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمحادَّة: المشاقَّة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديَين كأنّه في حَدّ مخالف لحدّ الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عُدْوَة الوادي لأن كلاً من المتعاديَين يشبه من هو من الآخر في عُدوة أخرى. وقيل: اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلاً من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر. والمراد بهم الذين يُحَادُون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسَلَ بدين الله فمحادته محادة لله. والكبت: الخزي والإِذلالُ وفعل {كبتوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبَتون، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] ولأنه مُؤيِّدٌ بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب {إنّ} لأن الكلام لو كان إخباراً عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحاً قوله: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني الذين حادُّوا الله في غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {من قبلهم} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم. {وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات بينات}. معترضة بين جملة {إن الذين يحادون الله ورسوله} وجملة {وللكافرين عذاب مهين} أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه. {وللكافرين عَذَابٌ مهين}. عطف على جملة {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة. وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين. ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإِهانة...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}. عبارة الآيتين واضحة: وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله، فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها، فلهم عند الله العذاب الأليم، ولسوف يبعثهم جميعا إليه، وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وهو شهيد ومطلع على كل شيء. ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين، وهناك احتمالان:
الأول: أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم.
والثاني: أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة، فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها، وفي حالة صحة الاحتمال الثاني، فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة، وإلا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم...