في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

26

قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة . كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود . قالها :

( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) . .

ولقد كان لإبراهيم - عليه السلام - أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه . ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في

عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل ( لعلهم يرجعون ) . . يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه . ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه .

ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم . ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم . عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها . فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه ؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به : محمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور .

فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه ؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه . هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم ?

لقد بعد بهم العهد ؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

وجعلها كلمة باقية : وجعل كلمة التوحيد باقية .

في عقبه : في ذرّيته .

ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيؤمنون بها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وجعلها كلمة باقية} لا تزال ببقاء التوحيد.

{في عقبه} ذريته، يعني ذرية إبراهيم.

{لعلهم}، يعني لكي {يرجعون} من الكفر إلى الإيمان...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ" يقول تعالى ذكره: وجعل قوله: "إنّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ إلاّ الّذِي فَطَرَنِي "وهو قول: لا إله إلا الله، كلمة باقية في عقبه، وهم ذرّيته، فلم يزل في ذرّيته من يقول ذلك من بعده. واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك... وقال آخرون: الكلمة التي جعلها الله في عقبه اسم الإسلام...

قوله: "فِي عَقِبِهِ" قال: ولده... قال ابن زيد "فِي عَقِبِهِ" قال: عقبه: ذرّيته...

وقوله: "لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ" يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، ويثوبوا إلى عبادته، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وجعلنا كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: الكلمة الباقية هي كلمة الهداية والتوحيد، فإنه سأل أن يجعل ما وجد منه من التبرّي من غير الله تعالى وتحقيق عبادة الله تعالى بقوله: {إنني برآءٌ مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدينِ} كلمة باقية.

والثاني: الكلمة الباقية هي كلمة الدعوة إلى الهدى والتوحيد، وهي عبارة عن إبقاء النبوّة والخلافة في ذرّيته إلى يوم القيامة، وهي ما {قال إني جاعلُك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]. أخبر أن الظالم من ذريته لا ينال عهده. فأما من لم يكن ظالما فإنه ينال عهده، وقد استجاب الله دعاءه، فلم تزل الدعوة في ذريته والذرية في خُلفائهم إلى يوم القيامة.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{لعلهم يرجعون} لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى التوحيد كلهم إذا سمعوا أن أباهم تبرأ من الأصنام ووحّد الله عز وجل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة واعوجاج حال من يرجى رجوعه، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به "إذ "أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليداً لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر، فتضمن لمتبعها حتماً تمام النصر، وفي سوقه سوق المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين: صنفاً يرجع وآخر لا يرجع.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد كان لإبراهيم -عليه السلام- أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده، عن طريق ذريته وعقبه. ولقد قام بها من بنيه رسل كان منهم ثلاثة من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم، الذي جعل هذه الكلمة باقية في عقبه، يضل منهم عنها من يضل، ولكنها هي باقية لا تضيع، ثابتة لا تتزعزع، واضحة لا يتلبس بها الباطل.

(لعلهم يرجعون).. يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه. ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه...

ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم. ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالمعنى: جعَل إبراهيم قوله: {إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني} [الزخرف: 26، 27] شعاراً لعقبه، أي جعلها هي وما يرادفها قولاً باقياً في عقبه على مرّ الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام. وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعمّ العقب، فإن أريد بالعقب مجموعُ أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلاّ من تَهوّد منهم أو تنصَّر، وإن أريد مِن كُل عقب فإن العرب لم يخلو من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنَصِّرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل، ومثل المتحنفين كزيد بن عَمرو بن نُفيل، وأُمية بن أبي الصلت...

والعقب: الذرية الذين لا ينفصلون من أصلهم بأنثى، أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في عقبه بالوصاية عليها راجياً أنهم يرجعون، أي يتذكرون بها التوحيد إذا رانَ رَيْن على قلوبهم، أو استحسنوا عبادةَ الأصنام...

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

{ وجعلها كلمة } أي كلمة التوحيد { باقية في عقبه } عقب إبراهيم عليه السلام لا يزال من ولده من يوحد الله عز وجل { لعلهم يرجعون } كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " وجعلها كلمة باقية " الضمير في " جعلها " عائد على قوله : " إلا الذي فطرني " . وضمير الفاعل في " جعلها " لله عز وجل ، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه ، وهم ولده وولد ولده ، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله ، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك . والعقب من يأتي بعده . وقال السدي : هم آل محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : قوله : " في عقبه " أي في خلقه . وفي الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه . أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله . قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله . قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة . وقال الضحاك : الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله . عكرمة : الإسلام ؛ لقوله تعالى : " هو سماكم المسلمين من قبل " {[13614]} [ الحج : 78 ] . القرظي : وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله : " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين " . [ البقرة : 132 ] الآية المذكورة في البقرة{[13615]} - كلمة باقية في ذريته وبنيه . وقال ابن زيد : الكلمة قوله : " أسلمت لرب العالمين " [ البقرة : 131 ] وقرأ " سماكم المسلمين من قبل " . وقيل : الكلمة النبوة . قال ابن العربي : ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم . والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم .

الثانية- قال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين ، إحداهما في قوله : " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " {[13616]} [ البقرة : 124 ] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد . ثانيهما قوله : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " {[13617]} [ إبراهيم : 35 ] . وقيل : بل الأولى قوله : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " {[13618]} [ الشعراء : 84 ] فكل أمة تعظمه ، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح .

الثالثة- قال ابن العربي : جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى ، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى{[13619]} والتحبيس . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيما رجل أعمر عُمْرَى له وأعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) . وهي ترد على أحد عشر لفظا : اللفظ الأول : الولد ، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور . وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا ؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين ، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ ، قاله مالك في المجموعة وغيرها .

قلت : هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين ، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم " {[13620]} [ النساء : 11 ] . وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس ، يقول المحبس : حبست على ولدي أو على عقبي . وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره ، واحتجوا بقول الله جل وعز : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " {[13621]} [ النساء : 23 ] . قالوا : فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه . وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " {[13622]} مستوفى .

اللفظ الثاني : البنون ، فإن قال : هذا حبس على ابني ، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد . ولو قال ولدي ، لتعدى وتعدد في كل من ولد . وإن قال على بني ، دخل فيه الذكور والإناث . قال مالك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك . روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته ، فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه . والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته ( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) . قلنا : هذا مجاز ، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه ، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني ، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ؛ لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها{[13623]} . ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه ؛ ولذلك قيل في عبد الله بن عباس : إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية .

قلت : هذا الاستدلال غير صحيح ، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه ، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " [ النساء : 23 ] . وقال تعالى : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى قوله " من الصالحين " {[13624]} [ الأنعام : 84 - 85 ] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك . فإن قيل فقد قال الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا *** بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعدِ

قيل لهم : هذا لا دليل فيه ؛ لأن معنى قوله : إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب ، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك ؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن ، وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا ، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه ، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه . ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته ، وتأول على قائله ما لا يصح ؛ إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا ، ولا يسمى ولد الابنة ابنا ؛ من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى ؛ لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة ، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة . ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان ، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة . وقد مضى هذا في " الأنعام " {[13625]} والحمد لله . اللفظ الثالث : الذرية ، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق ، فيدخل فيه ولد البنات لقوله : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى أن قال " وزكريا ويحيى وعيسى " [ الأنعام : 84 - 85 ] . وإنما كان من ذريته من قبل أمه . وقد مضى في " البقرة " {[13626]} اشتقاق الذرية وفي " الأنعام " الكلام على " ومن ذريته " [ الأنعام : 84 ] الآية ، فلا معنى للإعادة . اللفظ الرابع : العقب ، وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه ، يقال : أعقب الله بخير ، أي جاء بعد الشدة بالرخاء . وأعقب الشيب السواد . وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء ؛ ولهذا قيل لولد الرجل : عقبه . والمِعْقَاب من النساء : التي تلد ذكرا بعد أنثى ، هكذا أبدا وعقب الرجل : ولده وولد ولده الباقون بعده . والعاقبة الولد . قال يعقوب : في القرآن " وجعلها كلمة باقية في عقبه " وقيل : بل الورثة كلهم عقب . والعاقبة الولد ؛ ولذلك فسره مجاهد هنا . وقال ابن زيد : ها هنا هم الذرية . وقال ابن شهاب : هم الولد وولد الولد . وقيل غيره على ما تقدم عن السدي . وفي الصحاح والعقب ( بكسر القاف ) مؤخر القدم وهي مؤنثة . وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده . وفيه لغتان : عقب وعقب ( بالتسكين ) وهي أيضا مؤنثة ، عن الأخفش . وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده . وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه ، وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى : " ليس لوقعتها كاذبة " {[13627]} [ الواقعة : 2 ] . ولا فرق عند احد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى . واختلف في الذرية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب ، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك . وقيل : إنهم يدخلون فيهما . وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي " الأنعام " {[13628]} . اللفظ الخامس : نسلي ، وهو عند علمائنا كقول : ولدي وولد ولدي ، فإنه يدخل فيه ولد البنات . ويجب أن يدخلوا ؛ لأن نسل به بمعنى خرج ، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ، ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن بقول عقبي ما تناسلوا . وقال بعض علمائنا : إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه والد البنات ، إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي ، كما إذا قال : عقبي وعقب عقبي ، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات . اللفظ السادس : الآل ، وهم الأهل ، وهو اللفظ السابع . قال ابن القاسم : هما سواء ، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات ، ولا يدخل فيه الخالات . وأصل أهل الاجتماع يقال : مكان أهل إذا كان فيه جماعة ، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد{[13629]} من النساء والعصبة مشتقة منه وهي أخصى به . وفي حديث الإفك : يا رسول الله ، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا ، يعني عائشة . ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل ؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق . وقد . قال مالك : آل محمد كل تقي ، وليس من هذا الباب . وإنما أراد أن الإيمان أخصى من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة . وقد قال أبو إسحاق التونسي : يدخل في لأهل كل من كان من جهة الأبوين ، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال . وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق ، فهذان لفظان .

اللفظ الثامن : قرابة ، فيه أربعة أقوال : الأول : قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات . الثاني : يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه ، قاله علي بن زياد . الثالث : قال أشهب : يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء . الرابع : قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت . وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " {[13630]} [ الشورى : 23 ] قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم . وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ، فهذا يضبطه والله أعلم .

اللفظ التاسع : العشيرة ، ويضبطه الحديث الصحيح : إن الله تعالى لما أنزل : " وأنذر عشيرتك الأقربين " {[13631]} [ الشعراء : 214 ] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون ، وسواهم عشيرة في الإطلاق . واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد ، كما تقدم من قول علمائنا .

اللفظ العاشر : القوم ، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء . والقول يشمل الرجال والنساء ، وإن كان الشاعر قد قال :

وما أدري وسوف إِخَالُ أدري *** أقوم آل حِصْنٍ أم نساء

ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال ، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء ، فتعممه الصفة وتخصصه القرينة . اللفظ الحادي عشر : الموالي ، قال مالك : يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه . وقال ابن وهب : يدخل فيه أولاد مواليه . قال ابن العربي : والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء . قال : وهذه فصول الكلام وأصول المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له ، والتفريع والتتميم في كتاب المسائل ، والله أعلم .


[13614]:آخر سورة الحج.
[13615]:آية 132.
[13616]:آية 124 سورة البقرة.
[13617]:آية 35 سورة إبراهيم.
[13618]:آية 84 سورة الشعراء.
[13619]:العمري (كحبلى): تمليك الشيء مدّة العمر.
[13620]:آية 11 سورة النساء.
[13621]:آية 23 سورة النساء.
[13622]:راجع ج 7 ص 31.
[13623]:في نسخة من الأصل:" مشبهاتها". وفي ابن العربي "مسمياتها.
[13624]:آية 84 سورة الأنعام. راجع ج 7 ص 31.
[13625]:آية 84 سورة الأنعام. راجع ج 7 ص 31.
[13626]:راجع ج 2 ص 107 طبعة ثانية.
[13627]:آية 2 سورة الواقعة.
[13628]:راجع ج 7 ص 31.
[13629]:في الأصول:"ومن دخل في العقد". وفي ابن العربي:"ومن دخل في العقدة" وقد أثبتناه كما ترى استئناسا بما في شرح الباجي على الموطأ، وعبارته:"...ولا يدخل في ذلك الخالات. ومعنى ذلك عندي العصبة أو من كان في قعددهن من النساء. والقعدد (بضم أوله وسكون ثانيه وضم ثالثه وفتحه): القربى.
[13630]:آية 23 سورة الشورى.
[13631]:آية 214 سورة الشعراء. راجع ج 13 ص 143.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

{ وجعلها } أي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة التي هي التوحيد بدليله { كلمة باقية في عقبه } أي ذريته دعا وهو مجاب الدعوة في قوله : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } وفي قوله { ومن ذريتي ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } : { لعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم حال من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة واعوجاج حال من يرجى رجوعه ، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه ، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به " إذ " أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليداً لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر فتضمن لمتبعها حتماً تمام النصر ، وفي سوقه سوق المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين : صنفاً يرجع وآخر لا يرجع .

 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 ) }

وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) باقية في مَن بعده ؛ لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم وتوحيده ، ويتوبون من كفرهم وذنوبهم .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

قوله : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } الضمير في قوله : { وجعلها } عائد على قوله : { إلاّ الّذي فطرني } وتعني التوحيد . يعني وجعل كلمة التوحيد { باقية في عقبه } وهم ذريته . وفاعل قوله : { وجعلها } عائد إلى الله عز وجل ، أي وجعل الله كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ولده وولد ولده . والمراد بالكلمة ههنا : توحيد الله جل وعلا ، أو شهادة لا إله إلا الله . وقيل : المراد بالكلمة الإسلام . وقيل : النبوة ، فلم تزل باقية في ذرية إبراهيم . والمعنى : أن مقالة الحق والتوحيد وإفراد الله بالعبادة والإلهية دون غيره من الأنداد ، باقية في عقب إبراهيم وهم خلفه من بعده ، فقد توارثوا البراءة من عبادة غير الله وأوصى بعضهم بعضا بذلك .

قوله : { لعلّهم يرجعون } أي يرجعون إلى طاعة الله وعبادته وحده ويتبرأون من الشرك واتخاذ الآلهة والأنداد .