كانت القيادة - قبل الإسلام - لبني إسرائيل . كانوا هم أصحاب عقيدة السماء التي اختارها الله لتلك الفترة من التاريخ . ولا بد للبشر من قيادة مستمدة من السماء . فالأرض قيادتها هوى أو جهل أو قصور . والله خالق البشر هو وحده الذي يشرع لهم شريعته مبرأة من الهوى فكلهم عباده ، مبرأة من الجهل والقصور فهو الذي خلقهم وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) . .
فكان فيهم التوراة شريعة الله . وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة . وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب . وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبياً في التاريخ .
فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة ، الطيبة ، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات .
وكان تفضيلهم على أهل زمانهم بطبيعة الحال ؛ وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله ؛ وإيتاءهم الكتاب والحكم والنبوة :
{ 16-17 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
أي : ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس ، وآتيناهم { الكتاب } أي : التوراة والإنجيل { والحكم } بين الناس { والنبوة } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام ، أكثرهم من بني إسرائيل ، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملابس وإنزال المن والسلوى عليهم { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : على الخلق بهذه النعم ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه الأمة فإنهم خير أمة أخرجت للناس .
والسياق يدل على أن المراد غير هذه الأمة فإن الله يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل وميزهم عن غيرهم ، وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه الأمة ، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة فهذه الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها ، فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين .
قوله تعالى : " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب " يعني التوراة . " والحكم والنبوة " الحكم : الفهم في الكتاب . وقيل : الحكم على الناس والقضاء . و " النبوة " يعني الأنبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام . " ورزقناهم من الطيبات " أي الحلال من الأقوات والثمار والأطعمة التي كانت بالشام . وقيل : يعني المن والسلوى في التيه . " وفضلناهم على العالمين " أي على عالمي زمانهم ، على ما تقدم في " الدخان " بيانه .
ولما علم بهذه{[58064]} الحكم ما افتتحت به السورة من أن-{[58065]} منزل هذا الكتاب عزيز حكيم ، فكان التقدير فذلكة{[58066]} لذلك : فلقد آتيناك الكتاب والحكم والنبوة وفضلناك وأمتك على العالمين وأرسلناك لتنبه الناس على ما أمامهم وكان قومه{[58067]} بعد ائتلافهم على الضلال قد اختلفوا بهذا الكتاب الذي كان ينبغي لهم أن يشتد اجتماعهم به واستنصارهم{[58068]} من أجله ، عطف عليه مسلياً قوله : { ولقد آتينا } أي على ما لنا من العظمة {[58069]}والقدرة{[58070]} الباهرة { بني إسرائيل } نبي الله ابن عمكم إسحاق نبي الله ابن أبيكم إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام { الكتاب } الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والإنجيل والزبور وغيرها{[58071]} مما أنزل على أنبيائهم { والحكم } أي العلم والعمل الثابتين ثبات الاحكام بحيث-{[58072]} لا يتطرق إليهما{[58073]} فساد بما للعلم من الزينة بالعمل ، وللعمل من الإتقان{[58074]} بالعلم { والنبوة } التي تدرك بها الأخبار العظيمة التي لا يمكن اطلاع الخلق عليها بنوع اكتساب منهم ، فأكثرنا فيهم من الأنبياء { ورزقناهم } بعظمتنا لإقامة أبدانهم { من الطيبات } من المن والسلوى وغيرهما من الأرزاق اللدنية وغيرها { وفضلناهم } بما لنا من العزة { على العالمين } وهم الذين تحقق إيجادنا لهم في زمانهم وما قبله فإنا آتيناهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثرنا فيهم من الأنبياء ما لم نفعله لغيرهم ممن سبق ، وكل ذلك فضيلة ظاهرة
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 16 ) }
ولقد آتينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل والحكم بما فيهما ، وجعلنا أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام فيهم ، ورزقناهم من الطيبات من الأقوات والثمار والأطعمة ، وفضَّلناهم على عالمي زمانهم .
قوله تعالى : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين 16 وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون 17 ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون 18 إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظاليمن بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين 19 هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } .
يبين الله ما منّ به على بني إسرائيل من جزيل العطايا والنعم وابتعاث النبيين الكثيرين منهم . فقال سبحانه : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } آتاهم الله الكتاب ، وهو التوراة ، لتكون هداية للناس ونورا . وآتاهم الحكم أي العلم والفقه ليحكموا بين الناس في خصوماتهم . وقيل : المراد أنهم أوتوا القضاء والحكم على الناس { والنبوة } أي جعل منهم أنبياء ورسلا إلى الناس فقد كان النبيون من زمن يوسف عليه السلام إلى عيسى عليه السلام من بني إسرائيل . قوله : { ورزقناهم من الطيبات } آتاهم الله من الطيبات والخيرات ما لم يؤت غيرهم من الأمم وذلك كالمن والسلوى وغير ذلك من صنوف الثمرات والأقوات والأطعمة .
قوله : { وفضلناهم على العالمين } أي فضلهم الله على عالمي زمانهم وذلك بكثرة ما أوتوه من النعم والتنجية من كيد فرعون وزبانيته وجنوده ، فقد فلق الله لهم البحر ليمضوا فيه ساربين آمنين مطمئنين . ثم أخذ الله الظالمين بالتغريق والإهلاك والاستئصال ، حتى إذا خرج بنو إسرائيل إلى البر سالمين أظلهم الله بالغمام في الصحراء وقاية لهم من لظى الشمس بحرارتها البالغة . ثم سخر الله لهم طعام المنّ ، إذ يجدونه ظاهرا مكشوفا بين أيديهم وكذلك السلوى وهي أسراب كاثرة دانية من طير السماني يهبط نحوهم ليأكلوه في سهولة وبركة وهناء . وذلكم الذي فضل الله به بني إسرائيل في دنياهم على غيرهم من الناس . ولن يغنيهم مثل هذا التفضيل وأضعافه في أمور دنيوية ومعاشية عما جنوه في حق النبيين من تقتيل وتكذيب وما فعلوه في حق المسلمين من كيد وتربص وتمالؤ وتحريض .