وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم ؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :
( فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . .
والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال . أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقته . وكلا المدلولين قريب من قريب . . وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه . . أيا كان مدلول الجنون الذي رموه به . والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل . فالواقع يكذب هذا القول . إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع - كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانا هو الذي يمده ببديع القول ! - وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم .
وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه . ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه ؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه . ويطمئنه إلى أن ربه ( هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . . وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه . وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء !
إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .
استئناف لبيان ما قبله ، وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد .
إن الله أعلم من المجنون فيكما ، فالمجنون هو الذي ضلّ عن سبيل الهدى ، وتنكب الجادة ، واختار طريق الكفر والضلال ، وهو سبحانه أعلم بالمهتدي الذي بلّغ رسالة السماء ، وتمتع بالخلق العظيم ، وجعله الله خاتما للنبيين ، ومتعه بأسمى صفات البشر .
قال تعالى : إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما . ( الأحزاب : 56 ) .
وقد جعل الله طاعة الرسول من طاعة الله ، وجعله مبيّنا وموضّحا للوحي ، وقائدا لأمّته ، ومتّعه الله بالشفاعة يوم القيامة ، ويسّر له النصر ويسر لأمّته فتحا مبينا ، ونصرا عظيما .
قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . ( الصف : 9 ) .
وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله . . . ( النساء : 80 ) .
وقال عز شأنه : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم . . . ( النحل : 44 ) .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين }
وهذا وعدٌ من الله يشير إلى أن المستقبلَ سيكشف عن الحقيقة ، ويُثبِت أن هذا الرسول جاءَ برسالةٍ من عند الله ، وهو على هدىً وحق ، والمشركون على ضلالٍ مبين . وقد صدق وعدُ الله وظهرت الحقيقة ، ونصره اللهُ وأظهر هذا الدينَ القيّم .
ولما كان هذا إخباراً بجنونهم المستلزم لضلالهم{[67404]} على هذا الوجه المتصف ، وكان مثل هذا قد{[67405]} يقع في محاورات الناس بضرب من الظن ، استأنف تعالى ما هو كالتعليل لما أفاده السياق من هذا الحكم عليهم ، إعلاماً بأنه ناشىء عن علم قطعي لا مرية فيه بوجه ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم ، لأن يكون الأمر على ما أفاده ما تقدم : إن ربك أي الذي رباك أحسن تربية وجبلك على{[67406]} أعظم الخلائق { هو } أي وحده { أعلم } أي{[67407]} من كل أحد ، لا سيما من يتحرض ، { بمن ضل } أي حار وجار{[67408]} وذهب وزل ، وضاع وغاب غيبة عظيمة لا يهتدي منها ، وسلك غير سبيل القصد ، وأخطأ موضع الرشد ، معرضاً { عن سبيله } فكان أجن المجانين ، لأنه سبحانه وتعالى خالقهم ، وشارعه " ألا يعلم من خلق {[67409]}وهو اللطيف الخبير " {[67410]} ولا سيما وهو الحي القيوم الذي لا يغفل{[67411]} { وهو } أي خاصة { أعلم بالمهتدين * } أي الثابتين {[67412]}على الهدى{[67413]} وهم أولو الأحلام والنهى ، وهذا سر القدر الذي يقال : إنه{[67414]} إنما يظهر يوم الحاقة .