وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم ، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان . ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار . ولا مفر من مواجهتها ، ولا حيلة في دفع دلالتها :
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? ألم يك نطفة من مني يمنى ? ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى ? أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ? ) . .
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع ، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة . ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان . وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان :
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) . .
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية . . أرحام تدفع وقبور تبلع . . وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ، ومتاع قريب من متاع الحيوان . . فأما أن يكون هناك ناموس ، وراءه هدف ، ووراء الهدف حكمة ؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة ، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء ، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء . . أما هذا التصور الدقيق المتناسق ، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة ، تفعل كل شيء بقدر ، وتنهي كل شيء إلى نهاية . . أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم ، في ذلك الزمان .
والذي يميز الإنسان عن الحيوان ، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات . وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني ، ومن الوجود كله من حوله . وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته ، ودقة تصوره لوجود الناموس ، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس . فلا يعيش عمره لحظة لحظة ، ولا حادثة حادثة ، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل . ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه . ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثا ولا تتركهم سدى .
وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد ، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديما وحديثا .
وهذه اللمسة : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) . . هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري ، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات ، والأهداف والغايات ، والعلل والأسباب ، التي تربط وجوده بالوجود كله ، وبالإرادة المدبرة للوجود كله .
سدى : مهملا ، فلا يكلف بالشرائع ولا يجازى .
36- أيحسب الإنسان أن يترك سدى .
سدى . مهملا في الدنيا لا يكلّف بشرع ، مهملا في القبر لا يبعث ولا يحاسب .
أيظن الإنسان أن يتركه الله في الدنيا مهملا ، بدون أن يرسل إليه الرسل ، وينزل إليه الكتب ، ويبين له الحلال والحرام ، والتشريع وأخبار الأولين ، ومشاهد القيامة والبعث والحشر ، والصراط والميزان .
أو أن يهمله في قبره فلا يبعثه ليكافئ الصالحين ، ويعاقب الظالمين .
قال تعالى : إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى . ( طه : 15 ) .
وقال عز وشأنه : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار . ( ص : 28 ) .
ولما كان هذا فعل من أعرض عن الله أصلاً فلم يخطر {[70341]}شيئاً من عظمته{[70342]} على باله ، فكان ظاناً أنه مهمل لا مالك له{[70343]} وأنه هو السيد لا عبودية عليه ، فلا يؤمر{[70344]} ولا ينهى ولا يعمل-{[70345]} إلا بمقتضى شهواته ، قال منكراً عليه معبراً بالحسبان الذي{[70346]} الحامل عليه نقص العقل : { أيحسب } أي أيجوز لقلة عقله { الإنسان } أي الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى في نفسه وأبناء جنسه .
ولما كان الحامل على الجراءة مطلق الترك هملاً ، لا كون الترك من معين ، قال بانياً للمفعول : { أن يترك } أي يكون تركه بالكلية-{[70347]} { سدى * } أي مهملاً لاعباً لاهياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه ، فإن ذلك منافٍ للحكمة ، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوىء والجزاء على كل منهما ، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء ، فاقتضت الحكمة ولا بد البعث للجزاء .