قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة . كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود . قالها :
( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) . .
ولقد كان لإبراهيم - عليه السلام - أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه . ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في
عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل ( لعلهم يرجعون ) . . يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه . ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه .
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم . ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم . عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها . فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه ؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به : محمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور .
فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه ؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه . هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم ?
لقد بعد بهم العهد ؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :
كلمة باقية : كلمة التوحيد أو البراءة .
في عقبه : ذريته إلى يوم القيامة .
28- { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } .
أي : جعل كلمة التوحيد - وهي ( لا إله إلا الله ) – باقية في ذريته ، متأصلة فيهم ، حتى يرجع إلى التوحيد والإيمان من أشرك منهم .
يعني : ( لا إله إلا الله ) لا يزال في ذريته من يقولها إلى يوم الدين .
وقد وصى إبراهيم أبناءه وأحفاده بالتوحيد .
قال تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . ( البقرة : 132 ) .
وظل ميراث التوحيد في ذرية إبراهيم خلفا عن سلف ، وكانت في الجاهلية قبيل الإسلام طائفة من الموحدين ، مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، فقد دان بالتوحيد مخالفا قومه ، وفي ذلك يقول :
أربًّا واحدا أم ألف ربّ *** أدين إذا تقسّمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل الخبير
ومثل أمية بن أبي الصلت الذي تنسك في الجاهلية ، واجتنب الخمر والفواحش ، وسمع أن نبيا سيظهر ، فأراد أن يكون هو نفسه ذلك النبي ، ومن شعره :
مجّدوا الله وهو للحمد أهل *** ربنا في السماء أمسى كبيرا
الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا
وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن كاد أمية ليسلم )3 .
ولما ظهر الإسلام امتنع عن الإيمان حقدا وحسدا على النبي محمد صلى الله عليه وسيلم ، ولذلك قالوا في أمية : آمن لسانه وكفر قلبه ، ومن شعر أمية بن أبي الصلت في التوحيد :
إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها وزينها بنور *** من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها مراميها أشد من النّصال
وشق الأرض فانبجست عيونا *** وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى *** بها ما كان من حرث ومال
وكل معمر لابد يوما *** وذي دنيا يصير إلى زوال
{ وَجَعَلَهَا } أي : هذه الخصلة الحميدة ، التي هي أم الخصال وأساسها ، وهي إخلاص العبادة للّه وحده ، والتبرِّي من عبادة ما سواه .
{ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : ذريته { لَعَلَّهُمْ } إليها { يَرْجِعُونَ } لشهرتها عنه ، وتوصيته لذريته ، وتوصية بعض بنيه -كإسحاق ويعقوب- لبعض ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلى آخر الآيات .
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان .
قوله تعالى : { وجعلها } يعني هذه الكلمة . { كلمةً باقيةً في عقبه } قال مجاهد وقتادة : يعني كلمة التوحيد ، وهي لا إله إلا الله كلمة باقية في عقبه أي في ذريته . قال قتادة : لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده . وقال القرظي : يعني : جعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته ، وهو قوله عز وجل :{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } ( البقرة-143 ) . وقال ابن زيد : يعني قوله :{ أسلمت لرب العالمين }( البقرة-131 ) ، وقرأ :{ هو سماكم المسلمين } ( الحج-78 ) . { لعلهم يرجعون } لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم . وقال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل .
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه } ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه السلام ، وقيل : على الله تعالى ، والأول أظهر ، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي :
{ إنني براء مما تعبدون } ، ومعناها التوحيد ، ولذلك قيل : يعود على الإسلام لقوله : { هو سماكم المسلمين من قبل } [ الحج : 78 ] ، وقيل : يعود على لا إله إلا الله ، والمعنى متقارب أي : جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد ، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا .