وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى . . إنها دلائل نشأته الأولى :
( ألم يك نطفة من مني يمنى ? ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ? ) .
فما هذا الإنسان ? مم خلق ? وكيف كان ? وكيف صار ? وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب ?
ألم يك نطفة صغيرة من الماء ، من مني يمنى ويراق ? ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم ، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء ? فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة ? ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة ? ومن ذا الذي وجهها هذا الإتجاه ?
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء ? مؤلفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية ، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة ? والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي - وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته - والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته ! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة ، وهو خليقة صغيرة ضعيفة ، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب ? !
نطفة : ماء قليلا ، و الجمع نطاف ونطف .
ثم بين أنه خلق الإنسان من شيء صغير لا يُرى ، وجعله بهذه المنزلة وهذا التركيب وإعادته أهون عليه فقال :
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى } .
ألم يكن الإنسان نطفة في صلب أبيه ، وأودعها الرحم ، وخُلق من شيء لا يرى بالعين المجردة .
قرأ حفص وابن عامر ورويس : من مني يمنى بالياء كما هو في المصحف . والباقون : من مني تمنى بالتاء . و الحمد لله رب العالمين .
قوله تعالى : " ألم يك نطفة من مني يمنى " أي من قطرة ماء تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ؛ ولذلك سميت ( مني ) لإراقة الدماء . وقد تقدم{[15649]} . والنطفة : الماء القليل ؛ يقال : نطف الماء : إذا قطر . أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة .
وقرأ حفص " من مني يمنى " بالياء ، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو ، واختاره أبو عبيد لأجل المني . الباقون بالتاء لأجل النطفة ، واختاره أبو حاتم .
ولما كان الإنسان يجري{[70348]} على ما {[70349]}في طبعه{[70350]} من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة ، رحمه{[70351]} سبحانه {[70352]}بإعادة البرهان{[70353]} على المعاد بأمر يجمع {[70354]}القدرة والحكمة{[70355]} ، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعاً يصنع شيئاً ويتركه ضياعاً وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء و{[70356]} الحاكمين فقال منكراً عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه{[70357]} المحكمة {[70358]}فيه ، مقرراً{[70359]} أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل دليل على أنه لا مانع منها أصلاً ، حاذفاً نون الكون إعلاماً بأن{[70360]} الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لأجله فيحصل له الهلاك ، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته : { ألم يك } أي الإنسان { نطفة } أي شيئاً يسيراً جداً { من مني } أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله للابتلاء{[70361]} والاختبار مثاله المنية التي هي الموت { تمنى } أي سبب الله للإنسان المعالجة{[70362]} في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة{[70363]} وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت-{[70364]} منه{[70365]} بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها{[70366]} أصلاً ، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله ،