ثم يعود السياق إلى المنافقين الذين يتولون اليهود ، فيصور بعض أحوالهم ومواقفهم ، ويتوعدهم بافتضاح أمرهم ، وسوء مصيرهم ، وانتصار الدعوة الإسلامية وأصحابها على الرغم من كل تدبيراتهم :
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ? ما هم منكم ولا منهم ، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون . أعد الله لهم عذابا شديدا ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ، فلهم عذاب مهين . لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء . ألا إنهم هم الكاذبون . إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، أولئك حزب الشيطان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون . .
وهذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوما غضب الله عليهم - وهم اليهود - تدل على أنهم كانوا يمعنون في الكيد للمسلمين ، ويتآمرون مع ألد أعدائهم عليهم ؛ كما تدل على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت ، بحيث يخافها المنافقون ، فيضطرون - عندما يواجههم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنون بما يكشفه الله من تدبيراتهم ومؤامراتهم - إلى الحلف بالكذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال ؛ وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذه الأيمان .
إنما هم يتقون بأيمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم : اتخذوا أيمانهم جنة أي وقاية . وبذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله !
اتخذوا أيمانهم جنة : أعدوها سترا ووقاية ليخلصوا من المؤاخذة .
فصدوا عن سبيل الله : صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله ، بالتحريش والتثبيط .
16- { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
جعلوا من أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحفظ دمائهم ، وتستروا تحت إظهار الإسلام وإبطان الكفر ، وبذلك ثبطوا الناس عن الدخول في الإسلام ، وبثوا الفتن بين ضعاف الإيمان ، فصدوهم عن سبيل الله ودينه .
لذلك أعد الله لهم عذابا مؤلما ، يلازمه الذل والهوان في نار جهنم ، فهو عذاب شديد مؤلم ، وهو في نفس الوقت مشتمل على الذل والمهانة لهم ، جزاء خداعهم وكذبهم .
{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي : ترسا ووقاية ، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين ، فبسبب ذلك صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم . ومن صد عنه فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم ، { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } حيث استكبروا عن الإيمان بالله والانقياد لآياته ، أهانهم بالعذاب السرمدي ، الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا هم ينظرون .
{ اتخذوا أيمانهم جنة } يستَجِنُّونَ بها من القتل . وقرأ الحسن وأبو العالية { إيمانهم } بكسر الهمزة هنا وفي " المنافقون{[14795]} " . أي إقرارهم اتخذوه جنة ، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ، وكفرت قلوبهم{ فلهم عذاب مهين } في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار . والصد المنع { عن سبيل الله } أي عن الإسلام . وقيل : في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق . وقيل : أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم .
ولما دلت هذه الجملة على سوء أعمالهم{[63435]} ومداومتهم عليها ، أكد ذلك بقوله : { اتخذوا } أي كلفوا فطرهم الأولى المستقيمة لما لهم من العراقة في اعوجاج الطبع والمحبة للأذى{[63436]} ، { أيمانهم } الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، { جنة } أي وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان ، أو يوجب قتلهم بما يقع منهم من الكفران .
ولما كان علمهم بأنه يرضى منهم بالظاهر ويصدق أيمانهم {[63437]}هو الذي{[63438]} جرأهم على العظائم ، فكانوا يرغبون الناس في النفاق بعاجل الشهوات ويثبطونهم{[63439]} عن الدين بما فيه من عاجل الكلف{[63440]} وآجل الثواب ، سبب عن{[63441]} قبول إيمانهم قوله مظهراً بزيادة التوبيخ لهم{[63442]} ، { فصدوا } أي كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصد { عن سبيل الله } أي شرع الملك{[63443]}الأعلى الذي هو الطريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز الأعظم ، فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه ، ومن رآهم قد خلصوا من{[63444]} المكاره بأيمانهم الحانثة و{[63445]}ردت عليهم الأرزاق استدراجاً وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونهم من أقوالهم المؤكدة بالأيمان ، غره ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ، ونسج على منوالهم ، غروراً بظاهر أمرهم ، معرضاً عما توعدهم الله سبحانه عليه من جزاء خداعهم ومكرهم ، وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال : { فلهم } أي فتسبب عن صدهم أنهم كان لهم{ عذاب مهين * }جزاء بما طلبوا بذلك{[63446]} الصد{[63447]} إعزاز أنفسهم{[63448]} وإهانة أهل{[63449]} الإسلام .