ثم يكشف عن علة حالهم هذه . فقد استولى عليهم الشيطان كلية ( فأنساهم ذكر الله ) . . والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر : ( أولئك حزب الشيطان ) . . الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه ، ويعمل باسمه ، وينفذ غاياته . وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص : ( ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) . .
وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين . وتطمئن قلوب المسلمين . والله - سبحانه وتعالى - يتولى عنهم الحملة على أعدائهم المستورين !
استحوذ : استولى عليهم ، وأحاط بهم ، وغلب على عقولهم .
حزب الشيطان : أعوانه وأتباعه وأنصاره .
19- { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
لقد استولى الشيطان على عقولهم وأفكارهم ، فأنساهم ذكر الله وطاعته ، فذكروا الدنيا وأموالها وأولادها ومغانمها ، ونسوا ذكر الله ، أولئك المنافقون هم حزب الشيطان وأتباعه ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، فقد باعوا آخرتهم ، واشتروا دنياهم ، وباعوا جنة عرضها السماوات والأرض ، واشتروا الدرك الأسفل من النار .
علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره ، من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه ، والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويُشغل عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعهاxxiv .
{ استحوذ عليهم الشيطان } استولى عليهم وغلبهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه ؛ من الحوذ ، وهو أن يتبع السائق حاذي البعير ، أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه . يقال : حاذ الإبل يحوذها ، أي ساقها سوقا عنيفا ، أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان ، أي استولى على حاذيها ، أي جانبي ظهرها ؛ ثم أطلق على الاستيلاء .
وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم ، وزين لهم أعمالهم ، وأنساهم ذكر الله ، وهو العدو المبين ، الذي لا يريد بهم إلا الشر ، { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } .
{ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وأهليهم .
قوله تعالى :{ استحوذ عليهم الشيطان }أي غلب واستولى ، أي بوسوسته في الدنيا . وقيل : قوي عليهم . وقال المفضل : أحاط بهم . ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم . يقال : أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم . { فأنساهم ذكر الله } أي أوامره في العمل بطاعته ، وقيل : زواجره في النهي عن معصيته . والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة ، ويكون بمعنى الترك ، والوجهان محتملان هنا . { أولئك حزب الشيطان } طائفته ورهطه ، { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } في بيعهم ؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة .
ولما كان هذا الإنهماك فيما لا يغني مما يحصل لسامعه غاية العجب من وقوع عاقل فيه مرة من الدهر ، فضلاً عن ملازمته ، أخبر عن الحامل لهم عليه ، فقال مستأنفاً :{ استحوذ } أي طلب أن يغلب ويسوق ويسرع ويضرب الحوطة ويحث ويقهر ويستولي { عليهم الشيطان } مع أنه طريد ومحترق ، ووجد منه جميع ذلك ، ووصل منهم إلى ما يريده ، وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وأقطاعه ، وصار هو محيطاً بهم من كل جهة ، غالباً عليهم ظاهراً وباطناً ، من قولهم : حذت الإبل أي استوليت عليها ، وحاذ {[63469]}الحمار العانة{[63470]} - إذا جمعها وساقها غالباً لها ، والحوذ : السوق السريع{[63471]} ، ومنه الأحوذي : الخفيف في المشي لحدقه ، وجاء على الأصل على حكم الصحيح لأنه لم يبن على حاذ كافتقر{[63472]} فإنه لا مجرد له ، لم يقولوا : فقر : { فأنساهم } أي فتسبب عن استحواذه عليهم أنه أنساهم { ذكر الله } أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بعد أن كان ذكره مركوزاً في فطرهم الأولى ، فصاروا لا يذكرونه أصلاً{[63473]} بقلب ، ولا لسان .
ولما كان ذلك ، {[63474]}أنتج ولا بد{[63475]} قوله : { أولئك } أي الذين{[63476]} أحلوا أنفسهم{[63477]} أبعد منزل { حزب الشيطان } أي أتباعه وجنده وجماعته وطائفته وأصحابه {[63478]}والمحدقون به{[63479]} والمتحيزون إليه لدفع ما{[63480]} حزبه أي نابه واشتد عليه ، المبعدون المحترقون{[63481]} لأنهم تبعوه ولم يخافوا في{[63482]} مجازيته وإنفاذ ما يريد لومة لائم مع أنه كله نقائص ومعايب ، وهم مطبوعون على بغضه ، وتركوا من له{[63483]} الكمال كله ، وذكره وحبه مركوز في فطرهم ، فلذلك كانت ترجمة هذا ونتيجته قوله : { ألا } وأكد لظنهم الربح بما لهم في الدنيا من الكثرة وظهور التعاضد والاستدراج بالبسط والسعة فقال : { إن حزب الشيطان } أي الطريد المحترق { هم } أي خاصة { الخاسرون * } أي العريقون في هذا الوصف لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق .