في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

وتلك العبارة الأخيرة : ( وللكافرين عذاب أليم ) . . تناسب ختام الآية السابقة ، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله . على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب :

( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ، والله على كل شيء شهيد ) . .

إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة . وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر . فريق الذين يحادون الله ورسوله ، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله ! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله . فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله ، بل عند الحد الآخر المواجه ! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين ، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم . وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه ، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده !

هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون : ( كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ) . . والأرجح أن هذا دعاء عليهم . والدعاء من الله - سبحانه - حكم . فهو المريد وهو الفعال لما يريد . والكبت القهر والذل . والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية ، كما حدث في غزوة بدر مثلا .

( وقد أنزلنا آيات بينات ) . .

تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة . . لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات . وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة ، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات .

ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس :

( وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا ، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه . والله على كل شيء شهيد ) . .

والمهانة جزاء التبجح .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

الرقابة الإلهية

{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 ) }

/*

تمهيد :

تحدثت آيات سابقة عن رعاية الله للمؤمنين ، واستجابته لشكوى المجادلة ، وهنا يتهدد المخالفين الذين يعادون حدود الله وأحكامه ، ويفرون من أوامره وشرائعه ، بأن الله سيذلهم كما أذل من كفر بالرسل بالغرق وألوان الهلاك ، أو كما أذل قتلى بدر وأذل قريشا ومن شايعها ، ثم يلفت نظرهم إلى يوم القيامة ، حيث يخبرهم بأعمالهم كاملة ، ويجازيهم عليها جزاء وفاقا .

وتصور الآيات علمه تعالى الشامل ، وإحاطته بكل ما في السماوات والأرض ، فهو يعلم السر والنجوى ، لا يتناجى ثلاثة إلا كان رابعهم ، ولا يتناجى خمسة إلا كان سادسهم ، ولا يتناجى أقل من ذك ولا أكثر إلا كان معهم بعلمه وإحاطته ، ثم يخبرهم بما عملوه يوم القيامة ، إنه سبحانه بكل شيء عليم ، إن هذه الرقابة الإلهية هي التي أيقظت الضمائر والقلوب ، وجعلت الإنسان مراقبا لله ، خائفا من معصيته ، راغبا في طاعته .

*م/

المفردات :

يحادون : يشاقون ويعادون ، وأصل المحادّة : الممانعة ، ومنه قيل للبواب : حداد .

كُبتوا : خُذلوا ، وقال المبرد : كبت الله فلانا ، ، إذا أذله ، والمردود بالذل مكبوت .

مهين : يلحق بهم الهوان والذل .

التفسير :

5- { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } .

المحادة : المعاداة والمخالفة في الحد ، أي : الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله ، فهم ينفرون من حدود الله وأحكامه ، ويرتضون أحكاما تخالفها وتضادها ، هؤلاء أخزاهم الله وأذلهم كما أذل أعداء الرسل ، من عهد نوح ومن بعده من المرسلين .

لقد شرع الله الشرائع ، وفصل الآيات ، وحدد الحدود ، ونظم المواريث والآداب ، وأمر بغض البصر وحفظ الفروج ، والبعد عن الزنا والربا ، وأمر بصلة الأرحام وبر الوالدين وإكرام الجار ، ورعاية اليتامى والمساكين ، والضعفاء والفقر والفقراء ، ونهى عن الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكمل الله دينه .

قال سبحانه وتعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . . . ( المائدة : 3 )

فهناك وعيد عظيم لمن وضعوا أمورا خلاف ما حدده الشرع ، وسموها قانونا .

قال الآلوسي والمراغي في تفسير الآية :

نعم لا بأس بالقوانين السياسية ، إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد ، على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات ، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني ، كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي والجنايات التي لم ينص عليها الشارع فيها على حد معين ، بل فوض الأمر فيها للإمام ، وليس في ذلك محادة لله ورسوله ، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل .

وفي كتاب ( الخراج ) للإمام أبي يوسف إشارة إلى ذلك ، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامهvii .

ودليل الاجتهاد فيما لم تنص عليه الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي إلى اليمن قاضيا ومفقها وأميرا وجامعا للزكاة ، قال له : " كيف تصنع إذا عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله علليه وسلم " ؟ قال : أجتهد ريي لا آلو – أي لا أقصر – قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " viii . ( رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

يحادّون : يعصونه ويعادونه .

كُبتوا : خذلوا وقهروا وأُذلوا .

عذاب مهين : مذل .

بعد أن بيّن الكتابُ شرعَ اللهِ وحدودَه أردف مشيراً إلى من يتجاوزها ، ووصفهم بالمخالفة والعداء وأنه سَيَلحقُهم الخزيُ والنّكال في الدنيا كما لحق الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية ، ولهم في الآخرة العذابُ المهين في نار جهنم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {إن الذين يحادون الله} يعني يعادون الله {ورسوله كبتوا كما كبت} يعني أخزوا كما أخزي {الذين من قبلهم} من الأمم الخالية. {وقد أنزلنا آيات بينات} يعني القرآن فيه البيان أمره ونهيه. {وللكافرين عذاب مهين} نزلت في اليهود والمنافقين {مهين} يعني الهوان...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه، فيجعلون حدودا غير حدوده، وذلك هو المحادّة لله ولرسوله، وأما قتادة فإنه كان يقول:..." إنّ الّذِينَ يُحادّونَ الله وَرَسُولَهُ "يقول: يعادون الله ورسوله.

وأما قوله: "كُبِتُوا كمَا كُبِتَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فإنه يعني: غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم من الأمم الذين حادّوا الله ورسوله، وخزُوا... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معنى كُبِتُوا أهلكوا...

وقوله: "وَقَدْ أنْزَلْنا آياتٍ بَيّناتٍ" يقول: وقد أنزلنا دلالات مفصلات، وعلامات محكمات تدلّ على حقائق حدود الله.

وقوله: {وللْكافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} يقول تعالى ذكره: ولجاحدي تلك الآيات البيّنات التي أنزلناها على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنكريها عذاب يوم القيامة مهين: يعني مذلّ في جهنم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إن الذين يحادون الله ورسوله} قال بعض أهل الأدب: المحاد هو الذي يجعل نفسه في حد غير الذي أمره الله ورسوله، وكذلك قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} {الأنفال: 13} أي يكونون في شق غير الشق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلام نحوه. ومنهم من قال: حددته عن طريقه، أي عدلته عنه... {يحادّون الله ورسوله} أي يمانعون الناس، ويزجرونهم عن الطريق لئلا يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ويتبعوه...

{كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} قيل: غلبوا وردوا بغير حاجتهم كما غلب، ورد الذين كانوا من قبلهم. وقيل: أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم... ثم يخرج تأويله على وجهين:

أحدهما: أي كبت هؤلاء الذين منعوا الناس عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كما كبت من قبلهم...

والثاني: أي كبت هؤلاء الذين منعوا الناس عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كما كبت الذين مانعوهم عنه بمكة لأن هذه السورة مدنية، والله أعلم.

وقوله تعالى: {وقد أنزلنا آيات بينات} أي آيات تبين حدود الله من غير حدوده، أو آيات تبين الحق من الباطل، والرسول من غيره، والمحاد من غير المحاد. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} أي للكافرين {بذلك كله} عذاب يهينهم كما أهانوا المؤمنين...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآيات نزلت في منافقين وقوم من اليهود كانوا في المدينة يتمرسون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويتربصون بهم الدوائر، ويديرون عليهم ويتمنون فيهم المكروه ويتناجون بذلك، فنزلت هذه الآيات إلى آخر أمر النجوى فيهم...

وكبت الرجل: إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على دفعه... و {الذين من قبلهم} سابقو الأمم الماضية الذين حادوا الرسل قديماً...

وقوله تعالى: {وقد أنزلنا آيات بينات} يريد في هذا القرآن، فليس هؤلاء المنافقون بأعذر من المتقدمين...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

يحادون أي يعادون ويشاقون، وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله...

الضمير في قوله: {يحادون} يمكن أن يكون راجعا إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادون الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى، ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم {كبتوا} أي خذلوا...كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل يقال له: مكبوت، {كما كبت الذين من قبلهم} من أعداء الرسل:[...] فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

قال شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وللكافرين عذاب أليم).. تناسب ختام الآية السابقة، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادون الله ورسوله. على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب: (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد).. إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة. وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر. فريق الذين يحادون الله ورسوله، أي الذين يأخذون لهم موقفا عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله! وذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله. فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله، بل عند الحد الآخر المواجه! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم. وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده! هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون: (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم).. والأرجح أن هذا دعاء عليهم. والدعاء من الله -سبحانه- حكم. فهو المريد وهو الفعال لما يريد. والكبت القهر والذل. والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية، كما حدث في غزوة بدر مثلا. (وقد أنزلنا آيات بينات).. تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.. لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات. وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات. ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس: (وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه. والله على كل شيء شهيد).. والمهانة جزاء التبجح...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمحادَّة: المشاقَّة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديَين كأنّه في حَدّ مخالف لحدّ الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عُدْوَة الوادي لأن كلاً من المتعاديَين يشبه من هو من الآخر في عُدوة أخرى. وقيل: اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلاً من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر. والمراد بهم الذين يُحَادُون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسَلَ بدين الله فمحادته محادة لله. والكبت: الخزي والإِذلالُ وفعل {كبتوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبَتون، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] ولأنه مُؤيِّدٌ بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب {إنّ} لأن الكلام لو كان إخباراً عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحاً قوله: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني الذين حادُّوا الله في غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {من قبلهم} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم. {وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات بينات}. معترضة بين جملة {إن الذين يحادون الله ورسوله} وجملة {وللكافرين عذاب مهين} أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه. {وللكافرين عَذَابٌ مهين}. عطف على جملة {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة. وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين. ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإِهانة...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}. عبارة الآيتين واضحة: وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله، فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها، فلهم عند الله العذاب الأليم، ولسوف يبعثهم جميعا إليه، وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وهو شهيد ومطلع على كل شيء. ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين، وهناك احتمالان:

الأول: أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم.

والثاني: أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة، فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها، وفي حالة صحة الاحتمال الثاني، فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة، وإلا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

قوله تعالى :{ إن الذين يحادون الله ورسوله } لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها ، والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود ، وهو مثل قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله }{[14769]} " [ الأنفال : 13 ] ، وقيل : " يحادون الله " أي أولياء الله كما في الخبر : ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) . وقال الزجاج : المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحداد للبواب . " كبتوا " قال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وقال قتادة : أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم . وقال ابن زيد : عذبوا . وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . وقيل : يوم بدر ، والمراد المشركون ، وقيل : المنافقون . { كما كبت الذين من قبلهم } قيل : " كبتوا " أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه . وقيل : هي بلغة مذحج{[14770]} .

{ وقد أنزلنا آيات بينات } فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم ، { والله على كل شيء شهيد } .


[14769]:راجع جـ 18 ص 6.
[14770]:مذحج ـ كمسجد ـ: أبو قبيلة باليمن.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

ولما ذكر حدوده ، ولوح بالعطف على غير معطوف عليه إلى بشارة حافظها ، وصرح بتهديد متجاوزيها أتبع ذلك تفصيل عذابهم الذي منه بشارة المؤمنين بالنصر عليهم ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يغلبوا على كثرتهم وقوتهم وضعف حزبه{[63149]} وقلتهم : { إن الذين يحادّون الله } أي يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها ، وذلك صورته صورة العداوة ، مجددين ذلك مستمرين عليه بأي محادة كانت{[63150]} ولو كانت خفية{[63151]} - بما أشار إليه الإدغام كمحادة{[63152]} أهل الاتحاد الذين يتبعون المتشابه فيجرونه{[63153]} على ظاهره فيخلون{[63154]} به المحكم لتخل الشريعة بأسرها ، فإن كثيراً من السور{[63155]} نزل في المنافقين واليهود والمهادنين كما يأتي في النجوى وغيرها { ورسوله } الذي عزه من عزه{[63156]} { كبتوا } أي صرعوا وكبوا لوجوههم وكسروا وأذلوا{[63157]} وأخزوا فلم يظفروا وردوا بغيظهم في كل{[63158]} أمر يرومونه من أي كانت{[63159]} كان {[63160]}بأيسر أمر وأسهله{[63161]} ، وعبر بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه والفراغ من قضائه كما فرغ مما مضى ، فلذا قال لتكون الدعوى مقرونة بدليلها : { كما كبت الذين } ولما كان المحادون لم يستغرقوا جميع{[63162]} الأزمان الماضية{[63163]} والأماكن ، أدخل الجارّ فقال : { من قبلهم } أي{[63164]} المحادين كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصر على العصيان ، ولم ينقد لدليل ولا برهان ، قال القشيري : ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ، ووقع في هذا الذل .

ولما استوفى المقام حظه بياناً وترغيباً وترهيباً ، عطف على أول السورة أو{[63165]} على ما يقدر من نحو : فقد كان لكم فيما مضى من أول الإسلام إلى هذا الأوان مما يدل على كونه سبحانه بالنصر والمعونة مع نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم معتبر ، قوله : { وقد أنزلنا } أي{[63166]} بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم { آيات بينات } أي دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان بترك المحادة ويحصل الإذعان . ولما كان التقدير : فللمؤمنين بها نعيم مقيم في مقام أمين{[63167]} ، عطف عليه قوله : { وللكافرين } أي{[63168]} الراسخين في الكفر بها وتغيرها من أمر الله { عذاب مهين * } بما تكبروا واغتروا على أولياء الله وشرائعه ، يهينهم{[63169]} ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم .


[63149]:- من ظ وم، وفي الأصل: حزبهم به.
[63150]:- زيد من م.
[63151]:- من ظ و م، وفي الأصل: حقيقة.
[63152]:- من ظ وم، وفي الأصل: بمحادة.
[63153]:- من ظ و م، وفي الأصل: فيجرون.
[63154]:- من ظ وم، وفي الأصل: فيجعلون.
[63155]:- من م، وفي الأصل وظ: السور.
[63156]:- من ظ و م، وفي الأصل: عزره.
[63157]:- من ظ وم، وفي الأصل: أزلوا-كذا.
[63158]:- زيد من ظ وم.
[63159]:- من ظ وم، وفي الأصل: أمر.
[63160]:- من ظ وم، وفي الأصل: بأمره بأسهله.
[63161]:- من ظ وم، وفي الأصل: بأمره بأسهله.
[63162]:-من م، وفي الأصل: الزمان الذي مضى، وفي ظ: الأزمان الذي مضى.
[63163]:- من م، وفي الأصل: الزمان الذي مضى، وفي ظ: الأزمان الذي مضى.
[63164]:- زيد في ظ وم: من.
[63165]:- من ظ وم، وفي الأصل: "و".
[63166]:- زيد من ظ وم.
[63167]:- من ظ وم، وفي الأصل: آمنين.
[63168]:- زيد من ظ و م.
[63169]:- من ظ وم، وفي الأصل: لسهم-كذا.