5- { أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } .
جميع ما نقدره في تلك الليلة ، وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد ، هو أمر حاصل من جهتنا ، بعلمنا وتدبيرنا ، فسبحان من أحاط بكل شيء علما ، ومن بيده الخلق والأمر ، وهو على كل شيء قدير .
{ إنا كنا مرسلين } . نرسل الرسل والأنبياء لهداية البشر وتبليغهم الشرائع ، ونظام العبادات والمعاملات .
قوله تعالى : " أمرا من عندنا " قال النقاش : الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده . وقال ابن عيسى : هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده . وهو مصدر في موضع الحال .
وكذلك " رحمة ربك " وهما عند الأخفش حالان ، تقديرهما : أنزلناه آمرين به وراحمين . المبرد : " أمرا " في موضع المصدر ، والتقدير : أنزلناه إنزالا . الفراء والزجاج : " أمرا " نصب ن " يفرق " ، مثل قولك " يفرق فرقا " فأمر بمعنى فرق فهو مصدر ، مثل قولك : يضرب ضربا . وقيل : " يفرق " يدل على يؤمر ، فهو مصدر عمل فيه ما قبله . " إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك " قال الفراء " رحمة " مفعول ب " مرسلين " . والرحمة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : " رحمة " مفعول من أجله ، أي أرسلناه للرحمة . وقيل : هي بدل من قول . " أمرا " وقيل : هي مصدر . الزمخشري : " أمرا " نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا . وفي قراءة زيد بن علي " أمر من عندنا " على هو أمر ، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص . وقرأ الحسن " رحمة " على تلك هي رحمة ، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له .
ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها ، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه ، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة المقدرة على وفق الإرادة ، فقال مؤكداً {[57257]}لفخامة ما{[57258]} تضمنه وصفه بأنه حكيم : { أمراً } أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه{[57259]} دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في {[57260]}أوقاته بتقدير ، ويبرز{[57261]} على ما له من الإحكام في أحيانه في{[57262]} أقل [ من-{[57263]} ] لمح البصر ، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال : { من عندنا } أي من العاديات والخوارق وما وراءها .
ولما بين [ حال-{[57264]} ] الفرقان الذي من جملته الإنذار ، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار : { إنا } أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة { كنا } أي أزلاً وأبداً { مرسلين * } أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في [ كل-{[57265]} ] حين والإرسال لمصالح العباد ، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس ، فلا يكون لأحد على الله حجة {[57266]}بعد الرسل{[57267]} ، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه{[57268]} ببعض ، المتراصف{[57269]} أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل{[57270]} صحيفة ولا كتاب{[57271]} إلا في هذه الليلة ، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي " مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور " وكذا قوله في سورة القدر { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } فإن الوحي الذي [ هو-{[57272]} ] مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة{[57273]} ،
قوله : { أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } { أمرا } ، منصوب على المصدر . وقيل : منصوب على الحال . وقيل : منصوب بفعل مقدر ، أي أعني أمرا . والمراد بالأمر القرآن فقد أنزله الله من عنده . وقيل : الأمر ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده { إنا كنا مرسلين } أي من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا .