والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت ، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها . ويستبد بها استبدادا . فلكل نفسه وشأنه ، ولديه الكفاية من الهم الخاص به ، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) . .
" والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة . فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير ، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) !
ذلك حال الخلق جميعا في هول ذلك اليوم . . إذا جاءت الصاخة . .
يغنيه : يصرفه ويصدّه عن مساعدة ذوي قرابته .
34 ، 35 ، 36 ، 37- يوم يفرّ المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .
أي : إذا جاءت الصاخّة وهي القيامة ، في ذلك اليوم يفرّ المرء من أقرب الناس إليه ، بداية من الأخ ومرورا بالأم والأب ، ووصولا إلى الزوجة والأبناء ، مع أنه كان في الدنيا يفتديهم ويدفع عنهم السوء ، ويحاول أن يحل مشاكلهم ، ويشارك في سرّائهم وضرّائهم .
قال في التسهيل : ذكر تعالى فرار الإنسان من أحبابه ، ورتّبهم على مراتبهم في الحنوّ والشفقة ، فبدأ بالأقل ، وختم بالأكبر ، وذلك بذكر الأخ والأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين لأنهما أحب .
وجاء في غرائب القرآن : إن الفرار المعنيّ هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء ، بدليل قوله تعالى : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . أي : يصرفه ويصدّه عن قرابته .
وروى ابن أبي حاتم ، والنسائي ، والترمذي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا ) أي : غير مختونين . فقالت امرأة : أينظر بعضنا بعضا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( يا فلانة ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . vi ( قال الترمذي : حديث حسن صحيح ) .
وفي الحديث الصحيح : ( إن الناس في هول القيامة يلهمون أن الشفاعة للأنبياء ، فيذهبون إلى آدم ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم إلى عيسى ، فيقول كل نبي : نفسي نفسي ، إن الجبار غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : ( أنا لها ، أنا لها ) ، ثم يؤتيه الله الشفاعة . vii .
في ذلك اليوم ينقسم الناس إلى فريقين : أهل الإيمان والتقوى ، ويقابلهم أهل الكفر والعصيان .
{ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } يشغله عن شأن غيره .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله ، أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي ، عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يبعث الناس حفاةً عراة غرلاً ، قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، فقلت : يا رسول الله ، وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال : قد شغل الناس ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " .
" لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : [ يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ] قلت ، يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : [ يا عائشة ، الأم أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ] . خرجه الترمذي . عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يحشرون حفاة عراة غرلا ] فقالت امرأة : أينظر بعضنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : [ يا فلانة ] " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . قال : حديث حسن صحيح . وقراءة العامة بالغين المعجمة ، أي حال يشغله عن الأقرباء . وقرأ ابن محيصن وحميد " يعنيه " بفتح الياء ، وعين غير معجمة ، أي يعنيه أمره . وقال القتبي : يعنيه : يصرفه ويصده عن قرابته ، ومنه يقال : اعْنِ عني وجهك : أي اصرفه واعْنِ عن السفيه . قال خفاف :
ولما ذكر فراره الذي منعه قراره ، علله فقال : { لكل امرىء } أي وإن كان أعظم الناس مروءة { منهم يومئذ } أي إذ-{[71779]} تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام { شأن } أي أمر بليغ{[71780]} عظيم { يغنيه * } أي يكفيه -{[71781]} في الاهتمام بحيث لا يدع له حصة يمكنه{[71782]} صرفها إلى غيره{[71783]} ويوجب له لزوم المغنى ، وهو المنزل - الذي يرضيه مع أنه يعلم أنه-{[71784]} يتبعونه ويخاف أن يطالبوه لما هم فيه من الكرب بما لعله قصر فيه من حقوقهم .
قوله : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } كل إنسان يوم القيامة مشغول بأمره وهمه فما يعنيه أحد من الناس وإنما يعنيه نفسه دون سواها . وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة : " أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول : نفسي لا أسألك إلا نفسي ، حتى أن عيسى ابن مريم يقول : لا أسأله اليوم إلا نفسي . لا أسأله مريم التي ولدتني " .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا " فقالت زوجته ( عائشة ) : يا رسول الله ! ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } – أو قال : " ما أشغله عن النظر " .