ذلك حال المنافقين ، فأما حال المهتدين فهو على النقيض :
( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) :
وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر . فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء ، فكافأهم الله بزيادة الهدى ، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل : ( وآتاهم تقواهم ) . . والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله ، شاعرا برقابته ، خائفا من غضبه ، متطلعا إلى رضاه ، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها . . هذه الحساسية المرهفة هي التقوى . . وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله .
والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة .
17- { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } .
إذا كان الكفار والمنافقون قد أعرضوا عن الهدى فطمس الله على قلوبهم ، كما قال تعالى : { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . ( المطففين : 14 ) .
فإن المؤمنين الذين أحبوا الإسلام واهتدوا بالقرآن ، قد زادهم الله هداية وتوفيقا ، ومنحهم التقوى ، وهي مراقبة الله ومحبته ، والإخلاص في طاعته ، والإيمان به ، وإيثار مرضاته ، والالتزام بتنفيذ أوامره ، والابتعاد عما نهى عنه .
قال الإمام علي : التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
وقيل : التقوى هي ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ ، وقيل : التقوى هي ألا يراك حيث نهاك ، وألا يفقدك حيث أمرك ، وكلها تلتقي على أن التقوى حالة من الشفافية والإيمان ، والمحبة لله وطلب القرب منه ، والتزام طاعته وابتغاء مرضاته .
" والذين اهتدوا " أي للإيمان زادهم الله هدى . وقيل : زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدى . وقيل : ما يستمعونه من القرآن هدى ، أي يتضاعف يقينهم . وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى . وقيل : زادهم نزول الناسخ هدى . وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل : أحدها : زادهم علما . قاله الربيع بن أنس . الثاني : أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا ، قاله الضحاك . الثالث : زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم ، قاله الكلبي . الرابع : شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان .
قوله تعالى : " وآتاهم تقواهم " أي ألهمهم إياها . وقيل : فيه خمسة أوجه : أحدها : آتاهم الخشية ، قاله الربيع . الثاني : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي . الثالث : وفقهم للعمل الذي فرض عليهم ، قاله مقاتل . الرابع : بين لهم ما يتقون . قاله ابن زياد والسدي أيضا . الخامس : أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ . قاله عطية . الماوردي : ويحتمل . سادسا : أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم . وقرئ " وأعطاهم " بدل " وآتاهم " . وقال عكرمة : هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب .
ولما ذكر ما هم {[59576]}عليه وشنع عليهم{[59577]} أقبح{[59578]} الذكر ، ذكر الذين آتاهم العلم فقال : { والذين اهتدوا } أي اجتهدوا باستماعهم منك في مطاوعة داعي الفطرة الأولى إلى الوقوع على الهدى بالصدق في الإيمان والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات { زادهم } أي الله الذي طبع على قلوب الجهلة { هدى } {[59579]}بأن شرح صدورهم ونورها بأنوار المشاهدات فصارت أوعية للحكمة " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم {[59580]}{ وآتاهم تقواهم * }{[59581]} أي بين لهم ما هو أهل لأن يحذر{[59582]} ووفقهم لاجتنابه{[59583]} مخالفة للهوى ، فهم القسم الأول من آية توطئة المثل { الذين هم على بينة من ربهم } ومعنى الإضافة أنه آتى كلاًّ منهم منها بحسب ما يقتضيه حاله ، قال ابن برجان : التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام - انتهى{[59584]} .