وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان( بالقلم ) . . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله - سبحانه - كان يعلم قيمة القلم ، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم ، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي ، ولولا أنها الرسالة !
علم بالقلم : جعل الكتابة وسيلة العلم .
علم الإنسان ما لم يعلم : أوجد فيه قوة إدراك المعلومات وطاقات تحصيلها ، ويسر له الدرس .
3 ، 4 ، 5- اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم .
اقرأ الوحي ، وربك الأكرم . كثير الكرم والفضل ، حين أفاء عليك بالنبوة ، وأنزل عليك الوحي ، وأعطاك الشريعة السّمحة التي ختم الله بها الشرائع ويسرها للناس ، ونيسّرك لليسرى . ( الأعلى : 8 ) .
وبواسطة القلم كتبت الشرائع والعلوم والفنون ، والآثار والأخبار ، والتوراة والإنجيل ، والزبور والفرقان ، والحكمة والسّنّة ، لذلك أقسم الله بالقلم والدواة .
قال تعالى : ن والقلم وما يسطرون . ( القلم : 1 ) .
وأنزل القرآن ليتلى ويقرأ ، ثم يكتب ويسطّر ، واختار النبي أميّا ليكون معجزة بارزة ، فهذا الأميّ لم يقرأ كتابا ، ولم يخط بيمينه كتابا ، ومع هذا يقرأ هذا الوحي المبين الحكيم المعجز ، ويتحدّى به الناس أجمعين ، مما يدل على أنه ليس من صنع بشر ، بل تنزيل من رب العالمين .
أفاض الله الوحي والتشريع ، والهدى والقصص ، وأخبار الأولين والآخرين ، ومشاهد القيامة ، وأدب الدنيا والدين في هذا الوحي ، ليعلم به الإنسان كل ما لم يعلمه ، فسبحان المعلم الذي اختار رسولا وأنزل عليه وحيا ، ليعلّم الإنسان ما لم يعلمه إلا بطريق الوحي .
قال تعالى : إني أعلم ما لا تعلمون . ( البقرة : 30 ) .
وفي الأثر : ( من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يكن يعلم ) .
سبحانك اللهم خير معلم *** علّمت بالقلم القرون الأولى
أرسلت بالتوراة موسى مرسلا *** وابن البتول فعلّم الإنجيلا
وفجرت ينبوع البيان محمدا *** فسقى الحديث وعلم التأويلا
الجهل لا تحيا عليه جماعة *** كيف الحياة على يدي عزريلا
ناشدتكم تلك الدماء زكية *** لا تبعثوا للبرلمان جهولا
فترى الذين بنى المسلّة جدّهم *** لا يحسنون لإبرة تشكيلا
جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :
نبّه تعالى على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها الإنسان ، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولاها ما استقامت أمور الدنيا والدين . اه .
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآيات :
أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات المباركات ، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كرمه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرّفه الله وكرّمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أدم على الملائكة . اه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "اقْرأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ" يقول : اقرأ يا محمد وربك الأكرم "الّذِي عَلّمَ بِالقَلَمِ" : خَلْقَه الكتاب والخط ... عن قتادة ( اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ) قرأ حتى بلغ عَلّمَ بِالقَلَمِ قال : القلم : نعمة من الله عظيمة ، لولا ذلك لم يقم ، ولم يصلح عيش .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى : { علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } جعل الله تعالى القلم سببا ، به يحفظ ، وبه يثبت ، وبه يوصل ما يخاف فوته ونسيانه من أمر دينهم ودنياهم ما لو لم يكن القلم ، لم يستقم أمر دينهم ولا دنياهم .
ثم قوله تعالى : { علم بالقلم } أي علم الخط والكتابة بالقلم ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة رضي الله عنها من علم الخط بالقلم ، ثم أضاف التعليم بالقلم إلى نفسه .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى : إنه تعالى امتن على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم ، لما في ذلك من كثرة الانتفاع لخلقه ، فقد نوه الله بذكر القلم إذ ذكره في كتابه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أي أَفهَم الناسَ بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان ، والقلم آلة جامدة لا حياة فيها ولا من شأنها في ذاتها الإفهام ، فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ألا يجعل منك قارئا مبينا ، وتاليا معلما ، وأنت إنسان كامل ؟ ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان( بالقلم ) . . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله - سبحانه - كان يعلم قيمة القلم ، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم ، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي ، ولولا أنها الرسالة !
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم : ( الذي علم بالقلم ) . ( علم الإنسان ما لا يعلم ) . وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أنا بقارئ ، أي إنّ اللّه الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل ، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة . جملة ( الذي علم بالقلم ) تحتمل معنيين : الأوّل : أنّ اللّه علم الإنسان الكتابة ، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر ، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات . والثّاني : المقصود أنّ اللّه علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة . وبإيجاز إمّا أن يكون التعليم تعليم الكتابة ، أو تعليم العلوم عن طريق الكتابة . وهو على أي حال تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي ...
قوله : { الذي علّم بالقلم } وذلك دليل على كمال كرمه سبحانه ، إذ علّم الإنسان الكتابة بالقلم ، وعلمه ما لم يكن يعلم . وفي ذلك ما يشير إلى أهمية الكتابة وفضلها العظيم لما في ذلك من عظيم المنافع الدنيوية والأخروية . فإنه ما دوّنت العلوم ، ولا سطّرت الحكم ، ولا حفظت أخبار الأولين ولا ضبطت كتب الله المنزلة إلا بالكتابة . وهي لولاها لما استقامت أمور الدين والدنيا . وذلكم دليل ظاهر على بالغ حكمة الله سبحانه ، إذ علم الإنسان الكتابة بالقلم .
والكتابة في كيفية تحققها وضبطها بالقلم تتضافر جملة من مركبات الذهن والأعصاب والإرادة والبصر لتأتي الأفكار والأخبار والعلوم والمقاصد مدونة ومضبوطة ومتسقة . وهذه القدرة لا تتسنى لغير الإنسان الذي علمه الله الكتابة بالقلم وعلمه ما لم يكن يعلم{[4834]} .