وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه :
( أولئك الذين لعنهم الله ، فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) .
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه ، ولم يستيقنوه . ( أولئك الذين لعنهم الله ) . . وطردهم وحجبهم عن الهدى ، ( فأصمهم وأعمى أبصارهم ) . . وهم لم يفقدوا السمع ، ولم يفقدوا البصر ؛ ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر ، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر ؛ فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة .
لعنهم الله : طردهم الله من رحمته .
23- { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } .
هؤلاء المفسدون في الأرض ، القاطعون للرحم ، هم الذين لعنهم الله فطردهم من رحمته ، وجعلهم حيارى لا يهتدون إلى طريق الإيمان ، ولا يوفقون إلى هداية الرحمان ، فآذانهم صماء لا تسمع الهدى لأنهم تصامموا فأصمهم الله ، وتعاموا عن النظر في آفاق الكون ، وفي الأدلة الساطعة على وجود الله وعظمته ، فأعمى الله أبصارهم وبصائرهم ، وأظلم قلوبهم فصارت قاسية لا تلين لذكر الله ، ولا تستجيب لدعوة الهدى .
أورد الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية طائفة من الأحاديث والآثار في الحث على صلة الرحم ، وفضل صلة الرحم ، وعقوبة قطيعة الرحم ، وهي في جملتها تهيب بالمسلم أن يعمل الآتي :
1- الحرص على صلة الرحم ، ورعاية الأقارب ، والسؤال عنهم ، وزيارتهم والعطف عليهم .
2- مقابلة الإساءة بالإحسان ، حتى لا تقطع الأرحام ولا يعم الجفاء بين الأقارب .
روى البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خلق الله تعالى الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم ، فأخذت بحقوى الرحمان عز وجل ، فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك ) . قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرأوا إن شئتم : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } .
وروى الإمام أحمد ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر صاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم ) .
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون ، أفأكافئهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا ، إذن تتركون جميعا ، ولكن جد بالفضل وصلهم ، فإنه لن يزال معك ظهير من الله عز وجل ما كنت على ذلك ) . أخرجه أحمد .
وروى الإمام أحمد ، والبخاري ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) .
وفي الحديث القدسي : ( قال الله عز وجل : أنا الرحمان ، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ، فمن يصلها أصله ، ومن يقطعها أقطعه فأبتُّه ) ، أخرجه أحمد .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ) . وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ظهر القول وخزن العمل ، وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم ) . أخرجه الإمام أحمد ، والأحاديث في هذا كثيرة ، والله أعلم6 .
قوله تعالى : " أولئك الذين لعنهم الله " أي طردهم وأبعدهم من رحمته . " فأصمهم " عن الحق . " وأعمى أبصارهم " أي قلوبهم عن الخير . فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته ، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه ، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل . وقال : " فهل عسيتم " ثم قال : " أولئك الذين لعنهم الله " فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك .
ولما بين لهم ما يكون ممن تثاقل عن أمر الله ، لأن الملك لا يطرق احتمالاً في شيء إلا وهو واقع فرقاً بين كلامه وكلام غيره ، فكيف بملك الملوك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً{[59744]} ، بين حالهم الذي أنتج لهم ذلك ، فقال ملتفتاً عنهم إيذاناً بالغضب مخاطباً لمن جبل على الشفقة على خلق الله والرحمة لهم إعلاماً له بأن هؤلاء قد تحتم شقاؤهم فليسوا بأهل للشفاعة فيهم ولا للأسى عليهم : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين لعنهم الله } أي {[59745]}طردهم أشد الطرد الملك الأعظم{[59746]} لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم{[59747]} ؛ ثم سبب عن لعنهم قوله تعالى : { فأصمهم } عن الانتفاع بما يسمعون{[59748]} { وأعمى أبصارهم * } عن الارتفاق بما يبصرون ، فليس سماعهم سماع ادكار ، ولا إبصارهم إبصار اعتبار ، فلا سماع لهم{[59749]} ولا إبصار .
قوله : { أولئك الذين لعنهم الله } الإشارة عائدة إلى الذين تقدمت صفتهم من التولي – على الخلاف في تأويله - وعن الإفساد في الأرض وقطع الأرحام . وهؤلاء جميعا قد لعنهم الله بطردهم وإبعادهم من رحمته { فأصمهم } عن سماع الحق والموعظة والذكرى { وأعمى أبصارهم } أي سلبهم عقولهم فلا يتدبرون آيات الله ولا يعتبرون مما يرونه من الأدلة والعبر .
وقد وردت نصوص من السنة كثيرة توجب صلة الأرحام ورعاية أولى القربى ، وتحذر من قطع الرحم أشد تحذير ، فقد روى الإمام أحمد عن أبي بكرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " وروى أحمد أيضا عن ثوبان ( رضي الله عنه ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سرّه النسأ{[4238]} في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه " {[4239]} .