وكذلك يشهد الله - سبحانه - لإسماعيل واليسع وذي الكفل أنهم من الأخيار . ويوجه خاتم أنبيائه وخير رسله صلى الله عليه وسلم ليذكرهم ويعيش بهم ، ويتأمل صبرهم ورحمة الله بهم . ويصبر على ما يلقاه من قومه المكذبين الضالين . فالصبر هو طريق الرسالات . وطريق الدعوات . والله لا يدع عباده الصابرين حتى يعوضهم من صبرهم خيراً ورحمة وبركة واصطفاء . . وما عند الله خير . وهان كيد الكائدين وتكذيب المكذبين إلى جانب رحمة الله ورعايته وإنعامه وإفضاله . .
48-{ واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار } .
واذكر لقومك أو لنفسك هؤلاء الأخيار الذين صبروا وصابروا ، وكانوا مثالا يحتذى في الصبر والمروءة ، والتضحية والفداء .
وقد ذكر في الآية ثلاثة من الأخيار الذي يعملون الخير والبر والطاعة والمعروف وهم :
1- إسماعيل عليه السلام ، فقد كان مثالا للطاعة لأبيه ، والصبر على البلاء ، ومعاونة أبيه على تنفيذ أمر الله .
قال تعالى : { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } . [ الصافات : 102 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم " أنا ابن الذبيحين " {[579]} .
الذبيح الأول : إسماعيل ، فقد أمر الله إبراهيم بذبح إسماعيل ، ثم وفّى إبراهيم واستعد للذبح ، ففداه الله بذبح عظيم .
والذبيح الثاني : عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد نذر عبد المطلب إذا رزقه الله عشرة من البنين ليذبحن أحدهم قربانا ، ورزق فعلا ذلك ، وجاءت الهواتف تطلب من عبد المطلب الوفاء بالنذر ، وخرجت القرعة على عبد الله والد النبي ، ثم اقترحت عرّافة باليمن أن يقدموا فدية عن عبد الله هي مائة من الإبل ، وهي مقدار دية القتيل ، فقدموا هذه الفدية ، ونجا عبد الله ليكون أكرم والد لأكرم مولود .
2- اليسع عليه السلام ، وقد استخلفه إلياس على بني إسرائيل فصبر على جهلهم وسفاهتهم وظلمهم وكفرهم ، ثم اصطفاه الله رسولا .
3- ذو الكفل عليه السلام . وهو نبي مرسل عند الجمهور ، وكان من شأنه أنه جابه الظُّلم ، وتصدّى لقوم طاردوا عددا كبيرا من أنبياء بني إسرائيل ، وتعقبوهم ليقتلوهم ، فكلفهم ذو الكفل ، وآواهم غير مبال بعسف الظالمين وكيدهم .
ولما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام الذي لم يخرج من كنفه قط ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم على الدين وإن خالفهم من خالفهم ، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع ، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام ، فصار ما أضيف إليه من الأحوال والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام ، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام ، فقال : { واذكر إسماعيل } أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة { واليسع } أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام { وذا الكفل } أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ ، وعمل صالح زكي .
ولما تقدم وصف من قبل إبراهيم عليه السلام بالأوبة وخصوا بالتصريح ، لما كان لهم من الشواغل عنها بكل من محنة السراء ومحنة الضراء وكذلك الوصف بالعبودية سواء ، وكان الأمر بالذكر مع حذف الوصف المذكور لأجله والإشارة إليه بالتلويح ولا مانع من ذكره - دالاً على غاية المدح له لذهاب الوهم في تطلبه كل مذهب ، قال معمّماً للوصف بالعبودية والأوبة بها جميع المذكورين ، عاطفاً بما أرشد إليه العطف على غير مذكور على ما تقديره : إنهم أوابون ، ليكون تعليلاً لذكرهم بما علل به ذكر أول مذكور فيهم : { وكل } أي من هؤلاء المذكورين في هذه السورة من الأنبياء قائمون بحق العبودية فهم من خيار عبادنا من هؤلاء الثلاثة ومن قبلهم { من الأخيار * } أي كما أن كلاًّ منهم أواب بالعراقة في وصف الصبر - كما مضى في الأنبياء ، وبغير ذلك من كل خير على أن الصبر - جامع لجميع الطريق ، فهم الذين يجب الاقتداء بهم في الصبر على الدين ولزوم طريق المتقين .